تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ولشيخِنا والدة ٌ يبرُّ بها بِرّاً عظيماً، فهو إنّما يُكثرُ السفرَ إلى المدينةِ ويُقلُّ من المبيتِ خارجَها رِعاية ً لها، وبِرّاً بها، وقد كنتُ في مجلسهِ يوماً بعد صلاةِ المغربِ، فقامَ الشيخُ يُصلّي الراتبة َ، فسمِعتُ صوتاً يُنادي: مُحمّد! مُحمّد!، فقامَ شيخُنا وقطعَ صلاتهُ وخرجَ، فعلِمتُ أنَّ هذهِ أمّهُ، وقد حدّثني – أعلى اللهُ قدرهُ – أنَّ تركَ الرقية َ والقراءةَ على المرضى بطلبٍ من أمّهِ، فلا تجدُ الشيخَ قارئاً على مريض ٍ أبداً، بِرّاً بأمّهِ وصيانة ً لها، وفي أحدِ دروسهِ حرّجَ باللهِ العظيم ِ أنْ لا يحضرَ دروسهُ رجلٌ عاقٌّ لوالديهِ، أو ممتنعٌ عن برّهم، وقالَ: لولا أنّي لا أريدُ أن أحرجَ أحداً، وإلا لأمرتهم بالخروج ِ الآنَ من الدرس ِ، وإذا تكلّمَ عن برِّ الوالدين ِ خشعتْ جوارحهُ، ورقَّ قلبهُ، ودارتْ الدمعاتُ في عينهِ، وشفّتْ روحهُ، رضيَ اللهُ عنهُ وأعلى قدرهُ.

ويمتدُّ برّهُ ويتسلسلُ ليصلَ إلى أشياخهِ وإخوانهِ من أهل ِ العلم ِ، فلهم عندَ الشيخ ِ منزلة ٌ وقدرٌ عظيمٌ، فلا يكادُ الشيخ ُ في دروسهِ يذكرُ أهلَ العلم ِ إلا عقّبَ على أسماءهم بالترحّم ِ عليهم، والدعاءِ لهم بالرضى عنهم، وهذه من حسناتهِ الكبيرةِ، والتي غرسها في طلاّبهِ وأحياها فيهم، فلا يمرُّ عليهِ اسمُ العالم ِ أو الشيخ ِ إلا ودعا لهُ، وترّحمَ عليهِ، وأمرَ قارئهُ أن يفعلَ ذلكَ، برّاً بهم ومعرفة ً لقدرِهم، فهو يرى أنَّ لهؤلاءِ الأجلّةِ مكانة ً عظيمة ً علينا، فهم أصحابُ الفضل ِ والسابقةِ، ولا بُدَّ أن يُعرفَ فضلُهم، ويُدعى لهم.

والشيخ ُ لا يسمحُ لأحدٍ كائناً من كانَ أن يقعَ في عرض ٍ عالم ٍ بمجلسهِ، أو ينتقصَ منهُ، وأشدُّ ما رأيتُ الشيخَ غاضباً حينُ ينتهشُ عرضُ عالم ٍ، أو يُنالُ منهُ بحضرتهِ، فيغضبُ الشيخ ُ غضبة ً مضريّة ً، ويخرجُ عن طبيعتهِ المعروفةِ بالسماحةِ واللين ِ واليسر ِ، طاعة ً للهِ ولرسولهِ – صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ -، ثمَّ عِرفاناً لحقِّ أهل ِ العلم ِ ولمكانتِهم، وقد كُنتُ بحضرتهِ ومعنا رجلٌ في ضيافةِ الشيخ ِ، وكانَ الرّجلُ يشربُ الشاي، فإذا بهِ يقولُ للشيخ ِ: يا شيخُ!، ألا ترى أنَّ الشيخَ عبدَ العزيزَ بنَ باز ٍ يحتاجُ إلى إعادةِ نظر ٍ في بعض ِ الفتاوى!، وقد فهِمَ شيخُنا من حديثِ الرّجل ِ أنّهُ يقصدُ الغضَّ من الإمام ِ بن ِ باز ٍ – نوّرَ اللهُ قبرهُ -، فلم يجدْ شيخُنا بُدّاً من أن أمرَ الرّجلَ بالخروج ِ من بيتهِ، وقالَ لهُ: لا يجمعُني ومتنقّصُّ الشيخ ِ بن ِ باز ٍ سقفٌ، فخرجَ الرّجلُ من بيتِ الشيخ ِ، وحدّثني الشيخُ لاحقاً أنَّ الرجلَ جاءهُ بعد أسبوع ٍ وهو يقولُ: أشهدُكَ يا شيخُ أنّي أتوبُ إلى اللهِ من الكلام ِ في الشيخ ِ بن باز ٍ وغيرهُ من أهل ِ العلم ِ.

والشيخ ُ ابنُ باز ٍ – رحمهُ اللهُ – أحبُّ النّاس ِ إلى قلبهِ من أهل ِ العلم ِ بعدَ والدهِ، وقد قالَ لي مرّة ً: الجامعة ُ الإسلاميّة ُ انتهتْ بعد الشيخ ِ بن ِ باز ٍ، و حينَ جنازةِ الشيخ ِ في مكّة َ – شرفها اللهُ – رآهُ بعضُ الإخوةِ متأثّراً باكياً.

أمّا الغيبة ُ والنميمة ُ والبهتانُ، فهي عندَ شيخِنا من أكبر ِ الكبائر ِ، ولا يسمحُ لأحدٍ أن يغتابَ أحداً أو يغضَّ من قدرهِ مهما كانتِ الدوافعُ والمبرّراتُ، وقد كانَ لهُ مجلسٌ في بيتهِ يومَ الجمعةِ بعدَ صلاةَ العصر ِ كلَّ أسبوع ٍ، يأتي إليهِ طلبة ُ العلم ِ للفائدةِ والمناقشةِ، فكثرَ في مجلسهِ دعاة ُ الفتنةِ، من الذينَ ينتقصونَ العلماءَ، ويُثيرونَ الفتنَ، ويقتاتونَ على التصنيفِ، فما كانَ من شيخِنا إلا أن أغلقَ مجلسهُ، وفضَّ ذلكَ المحفلَ، وشيخُنا يُكثرُ من ذكر ِ قصص ِ العلماءِ في حفظِ اللسان ِ والتصوّن ِ عن الوقيعةِ في الصالحينَ، فقد كانَ هذا دأبُ والدهِ، بل هو دأبُ الصالحينَ جميعاً، أنّهم أملكُ ما يكونون لألسنتهم، فلا يذكرونَ أحداً إلا بالجميل ِ، ويُمسكونَ عن الكلام ِ والتجريح ِ، طاعة ً للهِ وديانة ً وقُربى، على العكس ِ من الكثير ِ من دعاةِ الفتنةِ والسعاةِ بالباطل ِ، الذين جعلوا ألسنتهم ناراً تأكلُ أعراضَ أهل ِ العلم ِ، ومقارضَ تقرضُ في مناقبِهم وتُذيعُ مثالبَهم.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير