تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

والحديثُ عن عفّةِ اللسان ِ وصيانتهِ عن اللغو ِ، يدعو حتماً للحديثِ عن الورع ِ والتواضع ِ، وهذا من آثار ِ شيخِنا الحميدةِ، أنّهُ ورعٌ متواضعٌ، تشهدُ بذلكَ أفعالهُ وتدلُّ عليهِ آثارهُ، خاصّة ً فيما يتصلُ بالفُتيا ومسائل ِ العلم ِ، فقلَّ أن تُرى لهُ مسألة ٌ يُخالفُ فيها الإجماعَ، أو ينتحي فيها طرائقَ أهل ِ الشذوذِ والتفرّدِ، بل يسلكُ مسالكَ أهل ِ العلم ِ، ولا يحيدُ عنهم، فليستْ للشيخ ِ مسألة ٌ أو فتوى إلا ولهُ فيها سلفٌ وأثرٌ، وقد كانَ كثيراً ما يُسألُ فلا يجيبُ، ويكتفي بقولهِ: اللهُ أعلمُ، أو يُحيلُ على أهل ِ العلم ِ الكِبار ِ، وفي مجالسَ عدّةٍ رأيتُهُ يُحيلُ على شيخِنا ابن ِ باز ٍ – رحمهُ اللهُ ورضيَ عنهُ -، وبعدَ موتهُ سمعتهُ يُحيلُ أكثرَ من مرّةٍ على الشيخ ِ العلاّمةِ المفتي عبدِ العزيز ِ آلَ الشيخ ِ – حفظهُ اللهُ -، وما كانَ يفعلُ ذلكَ عن قلّةِ في علمهِ، أو نقصاً في أهليّتهِ، إنّما يفعلهُ ورعاً وتحوّطاً، وبلغَ من تواضعهِ بينَ يدي أهل ِ العلم ِ، أنّهُ امتنعَ دهراً من إلقاءِ الدروس ِ في بلادِ القصيم ِ، لمكان ِ شيخِنا الإمام ِ ابن ِ عُثيمينَ – رحمهُ اللهُ ورضيَ عنهُ -، وحتّى عندما ألقى محاضرةً هناكَ، امتنعَ من أن يُجيبَ على الأسئلةِ فقهيّةٍ، تواضعاً منهُ، ورِعاية ً لحقِّ الأكابر ِ من العلماءِ، وعندما ألقى درسهُ في مكّة َ بحضرةِ الإمام ِ بن ِ باز ٍ – رحمهُ اللهُ – لم يجلسْ على الكرسيِّ في مكانهِ المعتادِ مرتفعاً، إنّما جلسَ على الأرض ِ، كما يجلسُ الطلاّبُ، وأكملَ درسهُ، ثمَّ أبى عن الإجابةِ على الأسئلةِ، وأحالها على الشيخ ِ ابن ِ باز ٍ – رحمهُ اللهُ -، على حالةٍ من الاعترافِ بحقِّ أهل ِ العلم ِ، وتواضعاً معهم وأدباً، في طريقةٍ نادرةٍ قلَّ أن نجدَ لها نظيراً، في زمن ِ التعالم ِ والتعالي ونفخ ِ الذاتِ وانتشار ِ الأنا!.

أذكرُ مرّة ً أنَّ امرأة ً اتصلتْ عليهِ وأنا بحضرتهِ، ففهمتُ من ردِّ الشيخ ِ أنَّها تسألُ عن أمر ٍ معيّن ٍ، فلمّا قضى الشيخُ جوابهُ، تغيّرتْ نبرة ُ صوتهِ، ثمَّ قالَ لها: يا أختي في اللهِ!، واللهِ ما أفتيكِ ولا أفتي غيركِ إلا وأنا أتمثّلُ الجنّة َ والنّارَ أمامَ عينيَّ، فإذا أفتيتكِ خُذي فتوايَ واكتفي بها، وكنتُ كثيراً ما أسمعُ منهُ هذا الكلامَ، فرضيَ اللهُ عنهُ ما كانَ أدينهُ للهِ وأخشاهُ!.

وللحديثِ عن عبادةِ الشيخ ِ وتقواهُ وخشيتهُ وقعٌ آخرُ، فقد عُرفُ الشيخُ بخشيتهِ وعِبادتهِ، فهو رجلٌ عامرُ القلبِ بالإيمان ِ – نحسبهُ كذلكَ واللهُ حسيبهُ -، وأثرُ ذلكَ بادٍ على وجههِ وسمتهِ وجوارحهِ، ويعلمُ اللهُ أنّي إذا رأيتُ الشيخُ أشعرُ براحةٍ عظيمةٍ، وتنفرجُ منّي الأساريرُ، وينزاحُ ما يهمّني أو يغمّني من وصبِ الدّنيا ونصبِها، لأنّي لا أراهُ إلا وأرى نوراً أجدُ أثرهُ في ومضاتِهِ، أكادُ أقبسُ منهُ دونَ أن أرى لهُ جذوة ً تمدّهُ ولا أظنُّ مصدرها إلا في صدرهِ، فهو حينَ يدخلُ إلى درسهِ يدخلُ مُطأطأً رأسهُ، متواضعاً للهِ جلَّ وعلا، في هيئةٍ من الإزراءِ بالنفس ِ، والتعظيم ِ للهِ، تكادُ تأخذُ القلوبَ وتأسرُ الألبابَ، وإذا صلّى إماماً فإنَّ لصوتهِ وقعاً على النفوس ِ، فهو يقرأ بخشوع ٍ وتبتلٍّ، تقرأ في ثنايا ترتيلهِ الخشية َ والخوفَ، وتسري إليكَ الهيبة ُ والسكينة ُ، وقد صلّى بنا مرّة ً أحدُ الإخوةِ أماماً وبكى في صلاتهِ، والشيخُ خلفهُ، وكنتُ في خلفِ الصفوفِ، وصوتُ الشيخ ِ وبكاؤهُ يصلُ إلينا في آخر ِ المسجدِ، فدمعتهُ سريعة ُ الوكوفِ، وقلبهُ تغشاهُ رقّة ٌ دوماً، وعندما شرحَ حديثَ غزوةِ الطائفِ، تغيّرَ وجههُ، ونشجَ نشيجاًَ كتمَ معهُ بكاؤهُ وعبرتهُ، إلا أنّهُ لم يتمكّنْ من ذلكَ في محاضرتهِ " واتقوا يوماً تُرجعونَ فيهِ إلى اللهِ "، إذ انفجرَ باكياً في مبتدأها، لأنّه ذكرَ فيها الحشرَ والنشرَ والموتَ، وهذه عادة ُ الشيخ ِ في حديثهِ في الرّقائق ِ، لا يكادُ يُمسكُ عينهُ وقلبهُ، تغشاهُ الرّقة ُ ويعلوهُ الخوفُ والوجلُ، وتستجيبُ عينهُ لداعي ذلكَ، فيقطعُ حديثهِ كثيراً بالبكاءِ والنشيج ِ.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير