أدرك الشيخ رحمه الله منذ اللحظة الأولى حقيقة المستعمر، فكان دائم التحذير من مكائده والتنبيه إلى أساليبه وساهم مع إخوانه العلماء في نشر الوعي الديني والوطني في أوساط الشعب وبعث الثقة في نفسه، ليرفع لواء الحرية والإستقلال ويطهر وطنه من رجس المستعمرين.
وكان رحمه الله قد كون تنظيما فدائيا سريا انطلاقا من مسجد الأمة عام1953، وبعد اندلاع الثورة لم يتردد في مساندتها مما أدى إلى سجنه عام 1956 وحاول المستعمر استغلال مكانة الشيخ عند الشعب الجزائري وتأثيره فيه فطلب منه أن يحذر الناس من المجاهدين ويبعدهم عن احتضان الثورة ودعمها، فرد عليه قائلا:
"أنا الآن في حكم الميت، إذا نفذت ما طلبتم مني يقتلني إخواني وإذا لم أنفذ تقتلونني أنتم، ومادمت ميتا فليكن موتي على أيديكم أفضل".
فحكم عليه بالإعدام، ثم أطلق سراحه بعد ثلاث سنوات لأسباب صحية، فقام المجاهدون بتهريبه إلى منطقة باتنة بالشرق الجزائري ثم إلى مدينة سطيف ليواصل عمله وجهاده بين أفراد شعبه.
وخلال تواجده بالسجن كان مواظبا على متابعة ما يصدره الأستاذ سيد قطب رحمه الله من تفسيره في ظلال القرآن وكان يقول: "كان الظلال يخرج من السجن في مصر ويدخل السجن في الجزائر".
الشيخ سحنون بعد الإستقلال
بعد نيل الجزائر استقلالها، عين الشيخ أحمد سحنون إماما خطيبا بالجامع الكبير بالعاصمة وعضوا بالمجلس الإسلامي الأعلى، فواصل عمله الدعوي التربوي بكل إخلاص واستقلالية، فكان أحرص ما يحرص عليه حرية الكلمة وخاصة إذا كانت تخرج من المنبر، فلم يكن يهادن في دينه ولا يقبل المساومة في مبادئه من غير جبن ولا تهور أو انفعال، شعاره في ذلك قول الباري عز وجل:" ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن " حتى استطاع بمنهجه أن يصبح منبرا للتعقل والحكمة ومرجعا لوحدة الشعب الجزائري والتفافه حول ثوابته.
وقد كان يقول رحمه الله: (فليست الدعوة إلى الله – إذن- كلاما مجردا عاديا، يستطيع أن يملأ به شدقيه كل من لا حظ له من دين أو خلق، ولا خلاق له من إيمان أو استقامة، إنما هي كفاح مرير ينبغي أن لا يخوض غماره إلا من تسلح له بسعة الصدر ولين القول واستقامة السيرة وبلاغة المنطق وقوة الحجة).
وكتب ذات مرة مقالا بعنوان "الدعوة إلى الله" ومما جاء فيه:
"وإذا كانت الكلمة اللينة والصدر الرحب من خير أدوات الدعوات بحيث تجعل العدو صديقا كما تشير إليه الآية، فبعكس ذلك تكون الكلمة الجافية والصدر الضيق من شر أسباب النفور بحيث يجعلان الصديق عدوا".
هكذا إذن كان منهجه في الدعوة إلى الله كما كان منهج الأنبياء بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، ولكن إذا انتهكت حرمات الله أو حورب الله ورسوله وهدد الإسلام في عقر داره فإنه يرفع لواء التصدي والذود عن دين الله كما فعل رحمه الله لما حاولت شرذمة من النسوة بدافع من اللائكيين وبقايا أذناب المستعمر في الجزائر أن تستبدل قانون الأسرة المستمد من الشريعة الإسلامية بآخر علماني لاديني، فخرج مع غيره من الدعاة في مسيرة حاشدة حضرها زهاء مليون إمرأة مسلمة جزائرية أصيلة ليقول لا لمحاولات العبث بدين الأمة وثوابتها.
وكان قبل ذلك نصح وعمل على منع القيام بمسيرة خلال أحداث أكتوبر 1988 الدموية خشية الوقوع في فخ أعداء الصحوة الإسلامية والزج بشباب الدعوة في برك من الدماء.
وفي سنة 1982 حرر إلى جانب صديق دربه الشيخ عبد اللطيف سلطاني والدكتور عباسي مدني بمناسبة التجمع الحاشد لأبناء الحركة الإسلامية بالجامعة المركزية "بيان النصيحة"، يدعو فيها الحكام إلى إلتزام منهج الله وقيادة الأمة بدينها وإعطائها حقوقها، وكان أن سجن الكثير من الدعاة ووضع الشيخ تحت الإقامة الجبرية لكبر سنه.
ومن الجهود المباركة التي قام بها الشيخ رحمه الله، محاولنه تأسيس رابطة الدعوة الإسلامية وهي إطار دعوي يجمع كافة أطياف الحركة الإسلامية لتوجيه العمل الدعوي وتوجيه جهود العاملين بعد توحيدها وتنسيقها لاجتناب التناحر والشقاقات داخل صفوف الحركة الإسلامية، كان ذلك سنة 1989م، وقد كانت محاولة رائدة لو كتب لها الله النجاح والإستمرار.
ولما دخلت الجزائر في محنتها وسالت دماء أبنائها حاول مخلصا جاهدا أن يجنب الشعب ويلات تلك المحنة وآلامها، فكان جزاؤه محاولة اغتياله وهو في ساحة المسجد متوجها للصلاة مما ترك في نفسه الأثر العميق لما وصلت إليه الجزائر، فعكف في بيته يدعو الله ويعبده ويطالع الكتب ويدرس إلى أن لقي الله ولم يبدل تبديلا.
وقد روى لي أحد الإخوة ممن زاره في الأسبوع الأخير من رمضان وهو على فراش المرض أنه كان يدخل في غيبوبة لبعض الوقت ولما يستفيق يردد قوله تعالى: {فأما الزبد فيذهب جفاءا وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}. قال ولما عزمنا على الخروج من عنده طلبنا منه أن ينصحنا فقال رحمه الله: عليكم بالتوحيد والوحد.
لقد مات الشيخ سحنون وهو يتألم مما وصل إليه حال الجزائر من انهيار وتفكك وفرقة، مات وفي قلبه أمل أن يرى الدعاة إلى الله على قلب رجل واحد.
وأخيرا فإن فقدان أب الصحوة الإسلامية في الجزائر وقبله الشيخ محفوظ نحناح والشيخ محمد السعيد وغيرهما من رواد هذه الصحوة ينبغي أن يكون محطة تاريخية تراجع فيها الحركة الإسلامية في الجزائر نفسها، فتتوب من معاصي الفرقة والتشتت والخصومات كي تستطيع القيام بدورها الرسالي في صناعة مستقبل الأمة والوصول بشعبها إلى شاطئ الأمان وإنقاذ البلد من محاولات طمس هويته وتغريبه.
آثار الشيخ
ترك الشيخ بعض الآثار المخطوطة والمطبوعة أهمها:
كتاب دراسات وتوجيهات إسلامية
كتاب كنوزنا ويقع في 300 صفحة احتوى تراجم لبعض الصحابة وهو لم يطبع بعد.
ديوان شعر بعنوان" حصاد السجن" يضم 196 قصيدة
ديوان شعر" تساؤل وأمل " وهو لم يطبع بعد
إلى جانب عشرات المقالات في العديد من الجرائد والمجلات كالبصائر والشهاب
فرحم الله الشيخ أحمد سحنون وأسكنه فسيح جنانه مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا وإنا لله وإنا إليه راجعون.
¥