فالعقل فن واحد وطريقه - - أدرى فأرصد و الجنون فنون
ولذلك قيل: مقاطعة الأحمق قربان إلى الله. وقال الثوري: النظر إلى وجه الأحمق خطيئة مكتوبة. ونعني بالعاقل الذي يفهم الأمور على ما هي عليه، إما بنفسه وإما إذا فُهِّم.
2 - وأما حُسن الخلق:
فلا بد منه، إذْ رُبَّ عاقلٍ يُدرك الأشياء على ما هي عليه، ولكنْ إذا غلبه غضب أو شهوة أو بخل أو جبن أطاع هواه، وخالف ما هو المعلوم عنده، لعجزه عن قهر صفاته، وتقويم أخلاقه فلا خير في صحبته.
3 - وأما الفاسق المُصِرُّ على الفسق:
فلا فائدة في صحبته؛ لأن من يخاف الله لا يُصِرُّ على كبيرة، ومن لا يخاف الله لا تؤمن غائلته، ولا يوثق بصداقته، بل يتغير بتغير الأغراض، وقال تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع
هواه}، وقال تعالى: {فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه}، وقال تعالى: {فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا}، و قال: {واتبع سبيل من أناب إلىّ}، وفي مفهوم ذلك زجر عن الفاسق.
4 - وأما المبتدع:
ففي صحبته خطر سراية البدعة، وتعدي شؤمها إليه، فالمبتدع مستحق للهجر و المقاطعة، فكيف تؤثر صحبته، وقد قال عمر رضي الله عنه في الحث على طلب التدين في الصديق فيما رواه سعيد بن المسيب قال: عليك بإخوان الصدق تعش في أكنافهم، فإنهم زينة في الرخاء، وعدة في البلاء، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يجيئك ما يغلبك منه، واعتزل عدوك، واحذر صديقك إلا الأمين من القوم، ولا أمين إلا مَنْ خشي الله، فلا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره، ولا تُطِعْهُ على سرك، واستشر في أمرك الذين يخشون الله تعالى، وأما حُسن الخلق فقد جمعه علقمة العطاردى في وصيته لابنه حين حضرته الوفاة، قال: يا بُنَيّ إذا عرضت لك إلى صحبة الرجال حاجة، فاصحب مَنْ إذا خدمته صانك، وإنْ صحبته زانك، وإنْ قَعَدَتْ بك مؤنة مانك، اصحب مَنْ إذا مددت يدك بخير مدها، وإنْ رأى منك حسنة عَدَّها، وإنْ رأى سيئةً سَدَّها، اصحب من إذا سألتَهُ أعطاك، وإنْ سكت ابتداك، وإنْ نزلت بك نازلة واساك، اصحب مَنْ إذا قلت صَدَّقَ قولك، وإنْ حاولتما أمراً أمرك، وإنْ تنازعتما آثرك. فكأنه جمع بهذا جميع حقوق الصحبة، وشرط أن يكون قائما بجميعها. قال ابن أكثم: قال المأمون: فأين هذا؟ فقيل له: أتدري لمَ أوصاه بذلك؟ قال: لا. قال: لأنه أراد أنْ لا يصحب أحداً.
وقال بعض الأدباء: لا تَصْحَب مِنَ الناس إلا مَنْ يكتم سرك، ويستر عيبك، فيكون معك في النوائب، ويؤثرك بالرغائب، وينشر حسنتك، ويطوي سيئتك، فإنْ لم تجده فلا تصحب إلا نفسك.
و قال علي رضي الله عنه:
إنَّ أخاك الحق من كان معك - - ومن يضر نفسه لينفعك
ومَنْ إذا ريب زمان صدعك - - شتت فيه شمله ليجمعك
وقال بعض العلماء: لا تصحب إلا أحد رجلين، رجل تتعلم منه شيئاً في أمر دينك فينفعك، أو رجل تعلمه شيئاً في أمر دينه فيقبل منك، و الثالث فاهرب منه.
وقال بعضهم: الناس أربعة، فواحدٌ حلو كله، فلا يُشْبَعُ منه، وآخر مُرٌ كله، فلا يؤكل منه، و آخر فيه حموضة فخذ من هذا قبل أن يأخذ منك، و آخر فيه ملوحة فخذ منه وقت الحاجة فقط.
وقال جعفر الصادق رضي الله عنه لا تصحب خمسة: الكذاب فإنك منه على غرور، وهو مثل السراب يُقَرِّبُ منك البعيد ويُبعد منك القريب، و الأحمق فإنك لست منه على شيء يريد أن ينفعك فيضرك، و البخيل فإنه يقطع بك أحوج ما تكون إليه، و الجبان فإنه يسلمك ويفر عند الشدة، و الفاسق فإنه يبيعك بأكلة أو أقل منها، فقيل: وما أقلَّ منها؟ قال: الطمع فيها ثم لا ينالها.
وقال الجنيد: لأنْ يصحبني فاسق حَسَنَ الخلق، أحب إلي من أن يصحبني قاريء سيء الخلق.
وقال ابن أبي الحواري: قال لي أستاذي أبو سليمان: يا أحمد لا تصحب إلا أحد رجلين، رجلاً ترتفق به في أمر دنياك، أو رجلاً تزيد معه وتنتفع به في أمر آخرتك، و الاشتغال بغير هذين حمق كبير.
وقال سهل بن عبد الله: اجتنب صحبة ثلاثة من أصناف الناس، الجبابرة الغافلين، و القراء المداهنين، و المتصوفة الجاهلين.
¥