أيها المسلمون: الحديث عن الثبات وقت المحن والصبر في البلاء والفتن حديثٌ موجه إلى عموم المؤمنين من الأخيار والصالحين والدعاة وطلبة العلم والمحتسبين حين يتسرب الوهن والإحباط إلى بعض المسلمين، ويرون تسلط الأعداء والمرجفين، ومن يُشعل فتيل الخلافات ويثير النزاعات ويطرحون الأفكار الغريبة المشتتة ..
وإذا كان أثرُ العلماء والمصلحين ظاهراً في تسكين الناس وتثبيتهم على الحق حين الشدائد وكثرة الفتن .. فإن ثمة مرجفين يجدون في أوقات ضعف الأمة وتكالب الأعداء عليها فرصاً لترويج باطلهم وتشكيك الناس في عقائدهم؛ يسخرون من الدين ويلمزون المطوعين من المؤمنين، ويُسهمون في إحباط الأمة وتخاذلها وتمييع مبادئها لتضييع هويتها ..
لا تحْذُوا حذَو عصابةٍ مفتونةٍ يجدون كل قديمٍ أمراً منكرا
ولَوِ اسْتَطَاعُوا في المجَامِعِ أنْكَرُوا مَنْ مَاتَ مِنْ آبَائِهِم أوْ عُمِّرَا
منْ كلِّ مَاضٍ في القدِيمِ وهَدْمِهِ وإِذَا تقَدَّمَ لِلْبِنَايةِ قَصَّرَا
أيها المسلمون، أيها الأخيار والصالحون: لقد قص الله علينا في كتابه، وروى لنا رسوله في سنته من سِيَر الأمم السابقة وأتباع الديانات السالفة، وقوة اطمئنان القلب لما جاء عن المرسلين على كثرة الصوارف وشدة بأس المخالف ما يبين معه أن إيمانهم لو وُزِنَ بالجبال لرجح بها، فهذا يُنشَرُ بالِمنشار من رأسه إلى قدميه ما يتزحزح عن دينه، وأولئك تُخدَّد لهم الأخاديدُ فتُسجَر بالنار ثم يقذفون فيها ..
كما ضرب لنا نبينا محمدٌ – صلى الله عليه وسلم – وصحابتُه الكرام أروعَ الأمثلة في الثبات على الدين؛ مما أوصل لنا الدين كاملا والعقيدة نقية صافية حتى اعتنقها ملايين البشر وعمَّتِ السهلَ والوعر.
وفي كل زمان فتنٌ وابتلاءات، ومع ذلك يبقى الدينُ ويبقى الخير، وفي زماننا هذا - ويالزماننا!! زمنِ زلزلة المفاهيم وخلخلةِ الثوابت وتقلبِ الآراء وانتكاس المبادئ .. زمنِ إعادة النظر في كل شيء دينيٍّ وإِرْثٍ عقديٍّ .. زمنِ السخرية من الدين وأهله وانتقاص الشريعة وحَملتِها، حتى كثر المتساقطون على الطريق واستحكم اليأس في بعض النفوس؛ فصار الباعثُ على إعادة
النظر في بعض أحكام الشريعة المستقرة ليس دليلا راجحا أو مأخذاً واضحاً، إنما الباعث ضغط الواقع أو اتباع الهوى ومسايرةُ الناس.
أيها المسلمون .. أيها المؤمنون .. أيها الأخيار والصالحون: المؤمن لا يهن ولا يحبط ولا يستكين ولا ييأس ولا يستوحش من الطريق لقلة السالكين، ولا ينظر إلى الهالك كيف هلك، بل ينظر إلى الناجي كيف نجا.
إننا اليوم أحوجُ ما نكون إلى الفأل والعمل والبشارة وتحفيز الهمم ومعرفة السنن .. سنن الله في أوليائه وأعدائه، سنن الإدالة والنصر والمد والجزر؛ حتى يطمئن مؤمن ولا يغتر فاجر، ولئلا يكون كثرة الباطل مدعاةً لليأس والقنوط، وقد قال الله - تعالى - لنبيه – صلى الله عليه وسلم -: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ يوسف103، وقال: ... وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) (سبأ 13)، وقال – سبحانه -: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ... (الأنعام116).
لا يجوز أن يضعف صاحب الحق أو يهين؛ فإن لهذا الدين إقبالا وإدبارا وامتداداً وانحسارا .. ضعفٌ وقوة وفرقة واجتماع وغربة وظهور وابتلاء وتمكين .. ينطق بذلك وحي السماء ويؤيده تاريخُ البشر ..
وفي الخبر المتفق عليه .. قال هرقل لأبي سفيان: " هل قاتلتموه؟ قال: نعم، قال: فكيف الحرب بينكم؟ قال: سجال .. يُدال علينا مرةً ونُدَالُ عليهِ أخرى، قال: كذلك الرسلُ تُبتَلَى ثم تكونُ لهمُ العاقِبة ".
حكمةٌ بالغة وسنةٌ ماضية: ... فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (فاطر 43)، ... وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ... آل عمران140.
¥