تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فإن تاريخنا لَم يكتب بعد كما ينبغي، حتى في الْحَواضر التي كتب عنها كثيرون قديما وحديثا، فهذه مراكش التي كتب عن رجالاتها الزائرين والساكنين شيخنا سيدي عباس، لَم تفز بعد بِمن [د] يكتب عن نواح شتى من أدوارها التي تقلبت فيها، وقد كنت أجمع كتابا في ذلك سميته: (مراكش في عصرها الذهبي) مشيت فيه خطوات، ومقصودي إظهار مراكش كما هي سياسيّا وعلميّا وأدبيّا واجتماعيّا في عصر المرابطين والموحدين، وبينما أنا مُكبٌّ على جَمع المواد -وما أكثرها- بِمناسبة استيفاء مراكش إذ ذاك سنة (1354هـ) تسعمائة سنة، إذا بالنفي مُختتم (1355) نادى مناديه، فتركت على رغمي الكتابة حول مراكش الذهبية التي هي العاصمة العظيمة للمغرب ردحا من الزمان إلى الكتابة حول تلكم القبائل التي تكانف هذه القرية الساذجة المغمورة (إلغ) ()، ولو خيرت لاخترت، فقدر لبني هذه القرية ومُجاوريهم ولأساتذتهم ولتلاميذهم ولأصدقائهم كتاب (المعسول) الذي يصل الآن -وقد كاد يتم تَخريجه- عشرين جزءا، حوول فيه أن يكتب بإسهاب كل ما أمكن عن السوسيين بأدنى مناسبة، ثم ليس ذلك كله بالتاريخ المطلوب عن سوس، وإنَّما المقصود جَمع المواد لمن سيكتبون وينظمون غدا، وهذا هو الواجب الآن علينا.

وأما أن ندعي أننا حقيقة نكتب التاريخ كما ينبغي، فإن ذلك إفك صراح، أولا ترى أن لك من عرف فاسا، وما أدراك ما فاس، واستحضر ما كتب حولَها من القرن الرابع إلى الآن كتابة ناقصة مُجحفة، وقد أدرك الدوز العظيم الذي مثلته فاس لا في المغرب ولا في شمال إفريقية وإزاء الأندلس فحسب، بل وفي العالم الإسلامي أجمع -يوقن أن تاريخها لَم يكتب بعد كما يَجب أن يُكتب- فكثيرا ما أقول لو تصدى باحث أو باحثون لكتابة تاريخ فاس من نواحيها كلها؛ لفتحوا صفحة عربية ذهبية وهاجة طافحة، وربما تنسي كل ما كتب عن بغداد ودمشق والقاهرة.

فهذا (تاريخ تطوان) لأخينا الأستاذ محمد داود المستوفي ثماني مُجلدات- وهو التاريخ الوحيد المستوفي لكل جوانب التاريخ المطلوب عن إحدى مدننا- قد كتب عن مدينة ربما كان جانب خاص من جوانب فاس أطفح وأعظم من جَميع جوانب تطوان في كل أدوار حياتها، ولكن حسن التنسيق من المؤلف، والإكباب على جَمع النظائر، وحسن الترتيب، ومُحاولة الاستيعاب، قد كست الكتاب حلة [هـ] براقة أخاذة بإبصار المطالعين، ومن لنا بِمثله عن فاس الْمَاجدة العظيمة التي هي فاسنا كلنا لا فاس سكانَها وحدهم؛ لأن فاس فاس العلم والفكر والحضارة، لا فاس شيء آخر، وإن تاريخ المغرب الثقافي العام ليكاد كله يكون كجوانب الرحى حول قطب فاس، فهأنذا أعلن عن سوس هذه التي أولعت بها، أن أول عالِم سوسي عرفته سوس فيما نعلمه هو وجَّاك، وهل هو إلا تلميذ أبي عمران الفاسي، وأنا هذا الذي أحسن مني بهذه الهمة، هل كنت إلا تلميذ علماء آخرين، وأجلهم وأكثرهم تأثيرا في حياتي الفكرية العلماء الفاسيون، وليت شعري كيف أكون لو لَم أقض في فاس أربع سنوات قلبت حياتي وتفكيري ظهرا لبطن، ثم لَم أفارقها إلا وأنا مَجنون بالمعارف جنون قيس بن الملوح بليلاه، حتى نسيت بها كل شيء.

فهكذا فاس، فهذ الأستاذة أمس واليوم، وكل أنْحَاء المغرب تلاميذ لَها، ولعل القارئ عرف ما ذكره المراكشي الصميم صاحب (المعجب) عن فاس في وقت ازدهار مراكش في عصرها الذهبي من الإشادة بِها، وتلك مزية كتبت لفاس من الأزل، فكانت أحق بِها وأهلها، أفيجمل بِمدينة مثل هذه تطفح بالشخصيات النادرة من العباقرة ما بين لغوي وأديب وطبيب وفيلسوف ومشرع ومُصلح وسياسي وصوفي، زيادة عما مضى فيها من الحوادث التي كانت هي الحاسمة في كل أدوار الحوادث في المغرب كله، أن تبقى بلا تاريخ مفصل منظم، مع أن ذلك في دائرة الإمكان؟

وبعد فليسمع صوت هذا السوسي كل جوابن المغرب من أعظم حاضرة إلى أصغر بادية، فلعل من يصيخون يندفعون إلى الميدان، فنرى لكل ناحية سجلا يضبط حوادثها، ويعرف برجالها، ويستقصي عاداتها، فيكون ذلك أدعى إلى وضع الأسس العامة أمام من سيبحثون في المغرب العام غدا على منضدة التاريخ المغربي العام.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير