ثم أقول لإخواننا السوسيين من الشباب: لا تظنوا أنني في كل ما سودته مما كتبته في مُختلف تلك الأجزاء الخمسين مِما خصص بالرجال أو بالحوادث أو بالرحلات أديت به حتى عشر المعشار من الواجب عن [و] سوسهم، فإنني ما عدوت أن جَمعت ما تيسر جَمعا بسيطا كيفما اتفق، بقلم متعثر، وأسلوب لا يزال يتتبع خطا أساليب القرون الوسطى؛ إلا أنني لا أنكر أنني حاولت فتح الباب فبذلت جهدي، وأفرغت وسعي، فكم غلط لا بد أن يقع لي، وكم من تَحريف أو تصحيف اسم لا جرم واقع فيه، فعليهم أن يقوموا ليستتموا وليصححوا الأغلاط، فهل من مُجيب؟
وبعد؛ فإليك أيها القارئ الكتاب الأول من تلك المجموعة التي تضم زهاء خَمسين جزءا تَحت أسْماء مُختلفة، فادع الله أن يُيسر موالاة نشر تلك الكتب كلها بفضله، وكرمه، على أنها لا تنشر إلا بتنشيطك وإقبالك عليها.
وقد كان ينبغي لِهذا الْجزء أن يَخرج إلى الوجود مُنذ جَمع سنة (1358هـ)، ولكن تأخر خروجه فكان في تأخره فوائد؛ منها: تنقيحه والزيادة فيه بِحسب الإمكان، وههوذا الآن وفق ما تيسر، لا على حسب ما ينبغي من التحرير.
فما كان فيه من فائدة جديدة في عالَم التاريخ المغربي ففضل من الله على مغربي لا يطول إخوانه بزيادة علم أو فضل، وما كان فيه من تقصير -وهو لا بد كائن- فإن التقصير من لوازم البشر.
وأي عمل من أعمال البشر يسلم؟! فالله الموفق والستير للعيوب.
الرباط 1379
مُحمد المختار السوسي
لطف الله به
[13]
بسم الله الرَّحْمَن الرحيم
وصلى الله على سيدنا مُحمد وآله وصحبه
أحق ما يفتتح به كل من له إلْمَام بلمعة من المعارف، أن يَحمد الله على ما أولاه إيَّاه، وأن يُصلي على رجل العالَم القرشي الْهَاشمي الذي حرر الأفكار، وشحذ العقول، وهتك الأوهام، ونفى الخرافات، فهيأ الأفكار لاقتناص المعارف كما هي من غير أن تشوبَها شائبة من إلاهيات اليونان، وأساطير الكلدان، وأوهام البطالسة والرومان، وخرافات الهند وإيران، كما يَحق أن يترضى عن أولئك الرجال الذين تربوا بذلك الرجل العظيم في وسط تلك البادية القاحلة، فسادوا من تربوا في مدارس الإسكندرية ورومة وبيزانطة والمدائن وجُنْدَيْسَابُور، فكانوا خير علماء بعد أن كان تضرب بِهم في الجهالة الأمثال، ويسير بأحاديثهم المحققة أو المأفوكة الركبان، كما أصبحوا مقاديم قلبوا الكرة الأرضية ببسالتهم النادرة، بعد أن كانوا عند سواهم كالرعاديد، بل صاروا أشباه الملائكة نزاهة وعلو همَّة، وزهدوا فيما يَملكون، فضلا عما لا يَملكون، فظهروا بمظهر عجيب، ومبادئ تنسف الأوهام، بعد أن كانوا ما شاء الله أغوال الصحراء التي تتخبط القوافل، أو تنتهب فيما بينها حرَبا () وفتكا، إذا لَم تَجد من تنتهب ماله، أو تفتك به، كما يقول أحدهم:
وأحيانا على بكر أخانا
إذا ما لَم نَجد إلا أخانا
فلم تَمض إلا سنوات عليهم مع معلمهم العظيم، والنبي الذي بذ كل الأنبياء، حتى تقمصوا روحا وثابة سارية، هي بالكهرباء أشبه منها [14] بأرواح الناس.
فحين واروا معلمهم صلى الله عليه وسلم -فداه أبي وأمي- أصبحوا أشد ما كانوا رباطة جأش، فلم يفت ذلك في أعضادهم، ولا وجد الشقاق متسربا إليهم، فلم تكن إلا عشية وضحاها، حتى وردت خيولهم دجلة فجيحون في الشرق، كما وردت نَهر بردى ثم النيل ثم وادي سبو في الغرب، ثم تسلقت جيوشهم جبال القوقاز والحملايا وتخوم ما وراء كاشغار، على حين أن فرقة أخرى منهم تتسلق جبال البرينات، وقد تخطت سهول الأندلس حتى كادت ترد مياه السين، كما تسلقت قبل ذلك جبال درن إلى ماسة حتى دخلت قوائمها في البحر المحيط، وهي تقول: هل من مزيد؟
شرقت كتائب معلمي العالَم -لا غزاته- وغربت، وشذبت بعدلها من قوانين الإنسانية وهذبت، ومهدت بِمساواتها بين أبناء آدم ما مهدت، حتى انقادت الأمم فدخلت في دين الله أفواجا، فترد من لغة ذلك الدين العدل صافيا عذبا زلالا، وتلقي من لغاتِها وراء أجاجا، فأقبلت على تلك اللغة تتحلى بها في المجامع، وتشمخ بإتقانِها في المحافل، هذا ورئيس () من رؤساء تلك الكتائب في ناحية من دمشق يتوضأ، والبشارات تتوالى عليه، كأنما الدهر يقول له: ما غلبتني أنت وأصحابك إلا بما تستمدونه من هذا الوضوء، ثم في تلك الوقفات التي تفقونَها مستقبلين تدعون، وكل دعاء أحدكم: رب زدني علما -هل يستوي الذين يعلمون والذين لا
¥