تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

إن هذه أسئلة يصعب على من لَم يقع على مواد جديدة مِمَّا لَم يشتهر الآن أن يُجيب عنها جوابا مقنعا، فالأدلة العقلية قد تقضي كماترى بأن بعض الشيء من اتساع الحركة العلمية كائن ولا بد.

ولكن تعوزها الأدلة النقلية، فمن عرف كيف (أغمات) قبل تأسيس (مراكش) وبعده؟ وكيف (مراكش) بعد ما تأسست؟ وكيف (حاحة) من السادس عهد أبي سعيد [19] الحاحي المزازي صاحب (منازل العلم)، ومن السابع عهد العبدري صاحب (الرحلة)، وكيف سجلماسة من القرن الثاني فالثالث، فهلم جرَّا؟ وعرف مع ذلك كيف اعتنى اللمتونيون والموحديون بالعلوم وبنشرها في المغرب؟ وعرف أن مراكز هاتين الدولتين () لا بد أن تكون بسوس.

وعرف أيضا أن أغمات ومراكش وحاحة وما إلى سجلماسة مغدى السوسيين ومراحهم، يكاد يَجزم بأن كل ما كانت طلائعه في القرن الخامس بسوس، أيَّام وجَّاج، مما يظهر أنه متسع الساحة، لَم تنطفئ جذوته، ولا جزر مده فيما يلي، وما الجزولي صاحب الكراسة (616هـ) ولا أبو يَحيى الجرسيفي المفسر الْمُحدث الكبير خريج الأندلس، ولا عمه سعيد بن النعمان، ولا ابن عمه الجزولي الجرسيفي نزيل فاس صاحب الشروح المتعددة على الرسالة (741هـ) وأمثالهم كالذين يكاتبهم ابن البناء ويُجاذبهم علم التوقيت فذكرهم في بعض كتبه، إلا أفراد أمْكن لَهم أن يظهروا في التاريخ لدواع خاصة، على حين أن آخرين من معاصريهم غمروا، ولَم يتأت لَهم من مثل تلك الدواعي ما يعرفهم به التاريخ، وإلا فلا يمكن أن يزخر المغرب كله بدوه وحضره بالعلوم العربية أيام الموحدين، ثم تبقى جزولة في نومها العميق، وجهلها الدامس، وهي التي نراها سباقة إلى كل غاية، ومادة يَمينا عرابية إلى كل راية.

هل ضياع أخبار تلك القرون هو

سبب عدم إدراكنا مَجد سوس العلمي؟

طالما رجعنا البصر كرتين، وأكثرنا الإمعان في عدم شهرة تلك القرون بالعلم العربي السوسي كما اشتهرت به بعد ذلك، فتراءى لنا ما ربما نَميل إلى ترجيحه أحيانا، من أن السبب الوحيد هو ما ابتلي به السوسيون إلى اليوم، من عدم الاعتناء برجالِهم، والتفريط دائما لا ينتج إلا الْجهل المظلم، وهذا العيب لا يزال فيهم ماثلا إلى الآن، كأنه مُمتزج بدمائهم، مستحوذٌ على ألبابِهم، فلولا دواع خاصة لبعض الناس؛ لَما رأينا أيضا من القرن التاسع إلى الآن إلا مثل ما نراه فيما قبل، مِمَّا بين القرنين الخامس والثامن، فلولا (التشوف) للزيات؛ لَما ظفرنا ببعض صوفية سوسيين، ولولا مُؤرخون آخرون غير سوسيين؛ لَما ظفرنا بآخرين من فطاحل علماء سوس إذ ذاك، نزلوا [20] القيروان ومراكش وفاسا وغيرها، وبآخرين: منهم من كان عالِما وسطا، ومنهم من نَحسبه كذلك، ومنهم من لا نظنه إلا عابدا صوفيّا لا غير، كما أنه لولا دواع أخرى لأناس آخرين؛ لَمَا رأينا من التاسع إلى الآن شيئا، فكان الشكر الجزيل للدواعي الخاصة التي تعتني بوجهة يحفزها إليها حافز، إمَّا التاريخ العام الذي يترامى إلى نواح شتى، فلم نَحسب أنه جال قط في دماغ سوسيين إلى الآن.

النهضة العلمية السوسية بعد الثامن

وأسبابها

رأينا فيما تقدم كيف كانت حالة سوس العلمية منذ اعتنقت الإسلام إلى الثامن، ولَم تكن بِحالة مبهجة، إمَّا لكونِها كذلك في الواقع، وإمَّا لأن سجوفا من الجهل الكثيف بالتفريط أسدلت دونَها، غير أن حالة تلك القرون إن لَم تكن سارة مبهجة؛ فقد جاء التاسع بفاتِحة خير، وطلع بفجر منير، وسفر عن وجه يقطر بشاشة وبشرا، حقّا كان القرن التاسع قرنا مَجيدا في سوس، ففيه ابتدأت النهضة العلمية العجيبة التي رأينا آثارها في التدريس والتأليف، وكثرة تداول الفنون، وقد تشاركت سملالة وبعقيلة ورسموكة، وآيت حامد وأقا، والجَرسيفيون، والهشتوكيون، والوادنونيون، والطاطائيون، والسكتانيون، والراسلواديون وغيرهم فيها، ثم جاء القرن العاشر، فطلع بِحركة علمية أدبية أوسع مِمَّا قبلها، تشده كل مطلع، فقد خرج العلماء إلى الميدان الحيوي، والمعترك السياسي، فشاركوا في الأمور العامة، واستحوذوا على قيادة الشعب، فكانوا سبب توطد الدولة السعدية، ثم جازتْهم هي أيضا بدورها، فكان منهم أفراد بين الكتاب والشعراء الملازمين للعرش، والسفراء ورؤساء الشرطة، وقواد الجند، والحرس الملكي الخاص () فزخرت سوس علما بالدراسة والتأليف، والبعثات تتوالى إلى فاس ومراكش، وإلى الأزهر،

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير