فكانت تئوب في ذلك العهد بتحقيقات اليسيتني، والونشريسي، وابن غازي، ونظرائهم، حتى كان كل ما يدرس في القرويين يكاد يدرس في سوس، قولة لا تنفج فيها وإنّها لَحقيقة ناصعة يقر بها كل مطلع (وما يوم حليمة بسر).
[21] ثُمَّ جَاء القرن الْحَادي عشر () بزبدة علمية عالية فطاحل العلماء، عادت فتاويهم قوية غير ضعيفة، ولو عاش عبد الله بن عمر المضغري؛ لرجع عن وصفه أهل سوس بضعف الفتاوي، وقد رد عليه أهل هذا العصر () بالْحَال والْمَقال، وناهيك بشيخ الْجَماعة: عيسى السكتاني، وعبد الله بن يعقوب السملالي، وعلي بن أحمد الرسموكي وسعيد الهوزالي، ومحمد بن سعيد المرغيتي الأخصاصي، ومحمد بن مُحمد التامانارتي، مفتين أقوياء الفتاوي، إلى فتاويهم يصار عند الاختلاف ().
ثُمَّ جاءت دويلة (إيليغ) فأخذت بضبع العلم والأدب اقتداء (بالبديع) ()، فأسندت المناصب القضائية في كل قبيلة إلى مستحقيها، وتستقدم إليها من تتزين () بِهم مَحافلها، وتعمر بِها مَجالس التدريس في مساجدها، فاتَّخذهم موضع الشورى، وأرباب المسامرة ()، وقد تتبعت خطوات البديع، أو فاقتها في احترام العلم وأهله؛ بسبب البساطة التي كان لَها منها ما لَم يعهد مثله في (البديع) نحو العلماء، وللبساطة في هذا المقام ما ليس للألمعية الداعية إلى أن يفعل كل شيء سياسة، لا تدينا ولا تقربا إلى الله بذلك عن إخلاص.
وكما أشادت بالعلماء أشادت بالأدباء، فرأينا الشعراء الجزوليين يشيدون بِمجد إيليغ (واللهى تفتح اللهى) وما كان العلماء والأدباء في حلبة إلا خلدوها، وقادوها إلى الفوز المبين، وجَميل الذكر الخالد، وقد حفظ التاريخ من أقوالِهم () قطعا وقصائد ومن تآليفهم () المتنوعات في الفنون ما يدل على ما لذلك الوسط من بلاغة في القول، وتَمكن في العلوم، وسمو في الفهوم، حتى قال قائل في مدح أمير (إيليغ) من قصيدة:
رد المساجد والمدارس كالريا
ض وقد غدت من قبله كالبلقع ()
فصدق من إيليغ ما كان أحد الشعراء ذكره من قصيدة ألقاها يوم بيعة بودميعة: [22]
فالمغرب الأقصى جَميعا ناظر
يوما تَجول عليه منك يَمين
فيرى العدالة كيف كانت والْهُدى
والعز بالإسلام كيف يكون
والعلم كيف يكون نشر ضيائه
في الناس حتى يعلم الْمسكين ()
ثُمَّ جاءت الدولة العلوية السعيدة، فكانت سعد السعود على السوسيين، فقد تكاثرت المدارس، وزخرت بالطلبة، حتى أن معظم المدارس السوسية لا نراها أسست إلا في هذا العهد، فقد لاقى العلماء السوسيون في كل مناسبة ممن تسنموا العرش العلوي تنشيطا واحتراما زائدا، والبدوي الْحُر الأنوف قد يقوم التنشيط الأدبي عنده مقاما لا يُدركه التنشيط المادي، فتمشوا في ظلها الوريف، كما كانوا يتمشون في الدولتين قبلها، فكانت لَهم أولا جولة نظنها متسعة مع ابن محرز أميرهم العلوي ما شاء الله، ثم رأينا آخرين يتصلون بالمولى إسماعيل فيلاقونه بقواف طنانة، ثم كان اعتناء مُحمد العالِم بكل علماء جزولة الذين فتح لَهم الباب على مصراعيه، ويستقدمهم لِمجلسه الْخَاص، ثُم يُجيزهم بِجوائز كثيرة، مع تَحرير قراهم من الكلف المخزنية -مظهرا من تلك المظاهر الشتى التي دامت للعلماء السوسيين تَحت كنف هذه الدولة السعيدة، ولَم يكن اعتناء محمد العالِم مُختصا بالعلماء أرباب الفنون فقط، بل كانت له لفتة -لعلها أكبر من أختها- إلى الأدب وأهله، حتى أنه لَمَّا صادف في الأدب السوسي ما أعجبه؛ قال كلمته الخالدة: «إني لَم أفرح بقيادة سوس كما فرحت بوجود مثل هؤلاء الأدباء فيه».
وقد شاء السعد أن تبقى نفحة تاريخية تدل على هذا الاعتناء العظيم بالعلم والأدب في عهد مُحمد العالِم، فحفظ لنا كتابا نعرف منه ما لم يكن لنا قط في حسبان، ولو شاء الله أن يطول ذيل هذا العهد السوسي في القرن الثاني عشر؛ لأبقى هذا الأمير العالم الأديب، حتى ينتعش الأدب، ويسترد قوته التي فقدها منذ ثل عرش (إيليغ)، وحتى يزداد العلم به رقيّا، ولكن العين التي لَم تُغادر ابن المعتز العالِم الأديب، ووزيره العالِم الأديب، وقاضيه العالِم الأديب، أبت أن تغادر مُحمدا العالِم الأديب للأدب الجزولي، حتى يرتفع به شأوه كرة أخرى إلى أعلى عليين، فيلحق أيضا فن الأدب بالفنون الأخرى التي لا تزال تزدهر إذ ذاك، ولكن إن ذهب مُحمد العالِم وعصره؛ فقد بقيت شهادته شهادة [23] خزيْمة للأدب
¥