أحدها: أنَّ العرف الإسلامي العام يعدُّ تمثيل الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- إهانة لهم أو مزرياً بقدرهم، وممَّا أعهد من الوقائع في ذلك أن بعض النصارى كانوا أرادوا أن يمثِّلوا قصة يوسف -عليه السلام- في بعض المدن السورية فهاج المسلمون لذلك، وحاولوا منعهم بالقوة، ورفع الأمر إلى الآستانة، فصدرت إرادة السلطان عبد الحميد بمنع تمثيل القصة وأمثالها (1).
فإن قيل: إن بعض مسلمي مصر كأولئك المتعلِّمين القائلين بالجواز لا يعدُّون ذلك إهانة ولا إزراء، إذ لا يخفى على مسلم أن إهانة الأنبياء أو الإزراء بهم أقل ما يقال فيه: إنه من كبائر المعاصي، وقد يكون كفراً صريحاً ورِدَّةً عن الإسلام.
نقول: إنما العبرة في العرف بالجمهور الذي تربَّى على آداب الإسلام وأحكامه، لا بالأفراد القلائل ومَن غلبت عليهم التقاليد الإفرنجية حتى صاروا يفضلونها على الآداب الإسلامية ...
بل يغلب على ظني أن أكثر الناس يعدون تمثيل الأمراء والسلاطين، وكبار رجال العلم والدين، مما يزري بمقامهم، ويضع من قدرهم، وأنَّ أحداً من هؤلاء الكبراء لا يرضى لنفسه ذلك ...
الوجه الثاني: أن أكثر الممثلين لهذه القصص من سواد العامة، وأرقاهم في الصناعة؛ لا يرتقي إلى مقام الخاصة، فإن فرضنا أن جمهور أهل العرف لا يرون تمثيل الأنبياء إزراء بهم على إطلاقه، أفلا يعدون من الإزراء والإخلال بما يجب لهم من التعظيم: أن يسمى: (السي فلان) أو (الخواجة فلان) إبراهيم خليل الله، أو موسى كليم الله، أو عيسى روح الله، أو محمداً خاتم رسل الله؟ فيقال له في دار التمثيل: يا رسول الله! ما قولك في كذا. . .؟ فيقول: كذا. . . ولا يبعد بعد ذلك أن يخاطبه بعض الخلعاء بهذا اللقب في غير وقت التمثيل على سبيل الحكاية، أو من باب التهكم والزراية، كأن يراه بعضهم يرتكب إثماً، فيقول له: مدد يا رسول الله! ألا إن إباحة تمثيل هؤلاء الناس للأنبياء قد تؤدِّي إلى مثل هذا، وكفى به مانعاً لو لم يكن ثَمَّ غيره.
الوجه الثالث: تمثيل الرسول في حالة أو هيئة تزري بمقامه ولو في أنفس العوام، وذلك محظور، وإن كان تمثيلاً لشيء وقع.
مثل ذلك: أن يمثل بعض هؤلاء الممثلين المعروفين يوسف الصديق -عليه السلام- بهيئة بدويٍّ مملوك تراوده سيدته عن نفسه وتقدُّ قميصه من دبره، ثم يمثِّله مسجوناً مع المجرمين ...
فتمثيل أحوال الأنبياء وشؤونهم البشرية بصفة تعدُّ زراية عليهم، وازدراء بهم، أو مفضية إلى ضعف الإيمان والإخلال بالتعظيم المشروع؛ مفسدة من المفاسد التي يحظرها الشرع، فكيف إذا أضيف إليها كون التمثيل في حدِّ ذاته يعدُّ في العرف العام تنقيصاً أو إخلالاً ما بما يجب من التكريم وكون الممثلين من عوام الناس، وقد علمت ما في هذا وذاك.
الوجه الرابع: أن من خصائص القصص التمثيلية: الكذب، وأن الكذب على الأنبياء ليس كالكذب على غيرهم، ... فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن كذباً عليَّ ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي متعمِّداً فليتبوّأ مقعده من النار». رواه الشيخان في الصحيحين وغيرهما من حديث سعيد بن زيد، ... والكذب عليهم يشمل ما يحكى عنهم من أقوال لم يقولوها، وما يسند إليهم من أعمال لم يعملوها.
فإن قيل: إنه يمكن وضع قصة لبعض الرسل يلتزم فيها الصدق في كلِّ ما يُحكى عنه، أو يسند إليه.
قلنا: إن النقل الذي يعتدُّ به عند المسلمين هو نقل الكتاب والسنة، ولا يوجد قصة من قصص الأنبياء في القرآن يمكن فيها ذلك إلا قصة يوسف، وكذا قصة موسى، وقصة سليمان مع ملكة سبأ، إذا جعل التطويل فيهن في غير الحكاية عنهم، والأولى هي التي يرغب فيها الممثلون، ويرجى أن يقبل على حضور تمثيلها الكثيرون، وفيها من النظر الخاص ما بيناه في الوجه الثالث، وأما السنة فليس في أخبارها المرفوعة ولا الموقوفة ما يبلغ أن يكون قصَّةً تصلح للتمثيل إلا وقائع السيرة المحمديَّة الشريفة، والعلماء بها لا يكاد أحد منهم يقدم على جمع طائفة منها وجعلها قصة تمثيلية.
وإذا فُتح هذا الباب، ووجد منهم مَن يدخله على سبيل النُّدور, لا يلبث أن يسبقه إليه كثير من الجاهلين بالسنة، المتقنين لوضع هذه القصص بالأسلوب الذي يرغب فيه الجمهور، فيضعون من قصص الأنبياء -المشتملة على الكذب- ما يكون أروج عند طلاب الكسب بالتمثيل، فيكون وضع الصحيح ذريعة إلى هذه المفسدة.
¥