وإذا أردت أن تعرف حال مثل هذا الرجل ومنزلته من الحديث وعلومه فتدبر واستقري حال أهل زمانه في ذلك ثم احكم عليه، أما أن تقايس رجلاً هندياً في القرن الثاني عشر مع ظروف الهند وما فيها وظروف القرن الثاني عشر وما كان عليه الناس مما اقتضت رحمة الله تعالى بعباده أن يقيض لهم فيه من يجدد لهم دينهم كالشاه ولي الله المذكور في الهند وبلاد المشرق، وكالإمام محمد بن عبدالوهاب في نجد وكجماعة بالمدينة خاصة والحجاز مثل محمد حياة السندي وتلامذته وعلى رأسهم محمد سعيد سفر، وكذا أبي الحسن السندي الصغير، وأصحابهما كالفلاني صاحب" إيقاظ الهمم"، وإن كان لكل في الإصلاح وجهة يسره الله لها وفي المنزلة رتبة بوأه الله تعالى إياها.
والمقصود بذكر هذا الإصلاح أنه ما وقع إلا بتقدم ظروف عصيبة اقتضت ظهوره ووقوعه، فمثل هذه الظروف إذا نبغ فيها من يخدم الحديث والسنة ويدعو إليها يقاس جهده بأمرين:
1. ما أحيا الله به من العلم أو حفظه.
2. ما أزال الله به من الجهل.
والجهاد في سبيل الله على هذين النوعين سواء أكان قولاً أم فعلاً، إما أن يكون إقداماً أو دفعاً.
والمتسرعون يحكمون بالظواهر المحضة التي تظهر لهم وهي في الحقيقة ظواهر نسبية بالنسبة لهم ولقصور اطلاعهم، وأما في الواقع فالظاهر بخلاف ما استظهروه.
فلا إفراط بجعل حفاظ المتأخرين كالمتقدمين، ولا تفريط ببخس المتأخرين شيئاً وهبهموه الله تعالى.
ومن تلاميذ الشاه ولي الله الصغار الذين صار لهم نفع كبير في إحياء علوم الحديث، وله عمل في سائر أبوابه العلامة الشريف محمد الهندي البلجرامي (نسبة إلى موضع بالهند) الملقب بالمرتضى الزبيدي شارح القاموس والإحياء، وصاحب التصانيف العديدة المفيدة وهو أشهر وأجل من رد الله به حياة هذا العلم في الديار المصرية بعدما ضعف وتضعضع، وقد ظهر أثره عليه رغم تأثره القوي بظروفه الزمانية والمكانية وعلاقاته المتنوعة، وأدركته بركته الحديث التي لا يجهلها من أبصر سناها ووجد عرفها.
وقد رأيت مقالة لبعض المستغلين بالحديث ورجاله يذكر فيها نبذاً من حال علوم الحديث بعد حفاظ المتأخرين الشاميين والمصريين لا المقتصرين على مجرد صناعة التي هي بضاعة الإجازتية والفهارسية وهي أقرب في كثير من الوجوه إلى التاريخ بل الأخبار منها إلى روح علم الحديث النبوي الذي كان عليه أئمته المدونوه والمورثوه لمن بعدهم.
وهذا ليس استخفافاً بأحد ولكن محاولة لوضع كل شيء في نصابه فصناعة الفهارس والأثبات بالصورة المعروفة عند المتأخرين شيء وما كان عليه الحفاظ والمحدثون حتى المتأخرون منهم شيء آخر، والعجيب أن المفارقة حتى في صناعة الرواية نفسها، فنفس المحدث فيها غير نفس الإخباري والمؤرخ والأديب، وإن كان الجميع قد يستعملون الرواية وربما يسندون لإطباق الفضلاء أن الأسانيد زينة جميلة وحلية بديعة يرغب فيها الذواقون ولها وقع في النفوس.
ودونكم كتاب الأغاني لأبي الفرج في الأدب، وكتب الأخباريين وتواريخهم، وهؤلاء متشبهون بأهل الحديث، الذين هم أصحاب الأسانيد حقاً وفرسان ميدانها، والمعطوها حقها عدلاً وقسطاً، ويعلمون أن الغاية منها أمر وراء التزين والتحلي وقوة الوقع عند الناس، وهو إثبات المروي وحفظه
والغالب على صنعة الرواية بعد تدوين الحديث النبوي كله هو حفظ هذه الدواوين والتذرع بالأسانيد إلى ذلك، واستدراج أهل الهمم بلطائفها إلى ما وراء ذلك من حفظها، فمن وقف عندها كان كمن صعد السلم ثم وقف في وسطه، وإنما المراد من السلم التوصل به إلى ما فوقه، أولسنا ننقل عن أسلافنا أن الأسانيد كالسلالم وأن من لا إسناد معه كيف يرقى السطح؟.
وهذا سؤال مهم يوجه للمغالين في احتقار صناعة الإسناد بالجملة والحط الملطق عليها وعلى أهلها.
ولا بد أيضاً أن يضم إليه سؤال آخر يوجه إلى المغالين في ظواهر الطرائف الإسنادية الواقفين عندها غير شاعرين أنها سلم لما فوقها فيقال لهم: ما دمتم تحتجون على أولئك المستخفين بكم بأن ما أنتم فيه سلم للمقصود المتفق عليه وهو "حفظ السنة " فما بالكم كلما طلبتم وجدتم على السلم قد لزم كل صنف منكم درجاً منه لا يجاوزها إلا إلى درجة أخرى ويبقى يتفرج على السلم ويفاخر أهل كل درجة من يليه بما وجده في درجته واشتغلتم ببنيات الطريق عن المقصد الذي سوغتم لأنفسكم بسببه تجشم صعود هذا السلم وإنفاق جهدكم الغالي ووقتكم الذي لا يعود فائته فيه، واعلموا أنكم أنتم المستفيدون أولاً من مواصلة الرقي على السلم وبلوغ أعلاه والمقصد الذي فوقه.
وأن شهوات النفوس لا تنتهي، والمفاخرة والمباهاة لا حد لها ما دامت الدنيا إذ ليست الدنيا إلا ذلك.
قال ربنا سبحانه الذي هو كما أخبر عن نفسه بعباده رؤوف رحيم، وأنه أرحم الراحمين:
" إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ..
كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً، ... وفي الآخرة! ..
... عذاب شديد! ومغفرة من الله ورضوان ..
وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ..
...... سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم".
والسلام عليكم معشر الإخوان ورحمة الله وبركاته.
¥