وثبت عنه أنه كان إذا ركب زيدٌ على دابته أخذ بخطام الدابة، فيقول له: أتفعل وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم! فيقول له ابن عباس: نعم، أنت من أهل العلم بكتاب الله عز وجل.
وكان زيد ممن كتب القرآن وحفظه وعلم حلاله وحرامه وناسخه ومنسوخه –رضي الله عنه وأرضاه-.
ولما دفن زيد، بكى أبو هريرة وقال ([25]) قولته المشهورة: لقد دفن الناس اليوم علماً كثيراً .. ولكن لعل الله أن يجعل في ابن عباس خلفاً من ذلك العلم .. ؛ لأن ابن عباس حفظ عن زيد، وكان كثير الحرص على التبكير إلى مجلس العلم.
المَعْلَمْ الثاني: الدنو والقرب من العلماء، والجلوس جلسة الموقر لمجلس العلم المتلهف عليه:
كن قريباً إلى العالم، حتى إذا دنوت منه أشِعره بالإجلال، تجلس جلوس ([26]) المتأدب، جلوس من يتذلل للعالم، ويظهر له أن يحبه وأنه يجله.
دخل الإمام أحمد رحمه الله على خلف الأحمر –وهو أحد أئمة الحديث-، لما أراد أن يقرأ عليه، جاء ليجلس بين يدي خلف رحمه الله، وكان الإمام أحمد مهاباً عند مشائخه، فلما جاء إلى خلف، أراد خلف أن يكرمه؛ لأنه أمام طالب من طلاب العلم، فجلس إلى جنبه، فقال له الإمام أحمد لما أراد أن يقرأ عليه: والله لا أجلس إلا بين يديك، هكذا أمرنا أن نتواضع مع من نأخذ عنه العلم.
وذكروا عن بعض علماء التفسير من الأئمة –رحمة الله عليه- أنه كان معه بعض طلابه في مجلس من المجالس، وكان بعض طلابه نابغة في اللغة العربية، فتذاكروا مسألة في اللغة، فتكلم ذلك الطالب فأجاد وأفاد، ثم قال لذلك العالم: لقد كتبت فيها ورقات، فقال له العالم: اذهب فائتني بما كتبت، فلما جاء بتلك الورقات وتلك الرسالة، نظر فيها ذلك الإمام الجليل، ما إن تصفح منها صفحة واحدة حتى نزل من مجلسه وأقسم على تلميذه أن يجلس في المكان الذي كان فيه، وأن يجلس الشيخ بين يديه حتى يقرأ الرسالة عليه .. أمة تعظم العلم وتعطيه حقه.
طالب العلم الذي لا يحسن الجلوس في مجالس العلماء، أو يجلس جلسة المتكدر، أو يجلس جلسة المترفع عن العلم، هذا بعيد عن سنة الصالحين، غافل عن خلُق عباد الله المتقين.
العلم مادة وروح، مادة: هي قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم. وروح: وهو إجلال العلم وإجلال العالم، ولذلك يقول طاوس بن كيسان –إمام من أئمة السلف الصالح رحمة الله عليهم- تلميذ ابن عباس، يقول كلمة عجيبة، يقول: (من السنة توقير العلماء).
المَعْلَمْ الثالث: الإنصات:
إذا جلست في مجلس العالم فكن حريصاً على الاستماع والإنصات، فلمجلس العلم حق، وانظر إلى تلك الآيات العجيبة من سورة طه، نبي من أنبياء الله، أراد الله أن يعلّمه، وأن يوحي إليه بدينه وشرعه، فقال له الله تعالى يخاطبه –وهو موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-، قال له كلمات استفتحها بقوله: ((إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)) [طه:12 - 14]، أدب المجلس: اخلع نعليك، وأدب الحديث: استمع لما يوحى، فالله يعلمنا في هذا الخطاب أن الإنصات من حقوق مجالس العلم، وهذا هو شأن الصحابة من الجنّ بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: ((وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ)) [الأحقاف:29]، أنصتوا: وصية يوصي بها بعضهم بعضاً، فلما تأدبوا في مجلس العلم، نفعهم الله به. وأما شأن الصحابة من الإنس في الإنصات فهو شيء عجيب، ورد عنهم في الأحاديث الصحيحة أنهم كانوا إذا ذكّرهم النبي صلى الله عليه وسلم بركوا وكأن على رءوسهم الطير. وفي حديث سهيل بن عمرو في صحيح الإمام البخاري -يوم الحديبية- أنه قال يصف النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه: لا يرفع أحد منهم بصره في وجهه إجلالاً وإكباراً له –صلوات الله وسلامه عليه-.
¥