تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وكان بعض العلماء يشنّع على من يستاك في مجلس العلم حتى لا يصرف باله عن العلم الذي جلس فيه، والله تعالى يقول: ((مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ)) [الأحزاب:4].

وهكذا كان إقبال الصحابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلسوا أطرقوا كأن على رؤوسهم الطير، ما كانوا يستاكون، ولا كانوا ينشغلون، وفي الحكمة (أعطِ العلم كلك يُعطِك بعضه)، فكيف إذا أعطاه الإنسان بعضه ([37])؟

المَعْلَمْ الرابع: الصبر وتحمل المشقة في الطلب:

وهذا المَعْلَم الذي ذكرناه أن العلم لابد فيه من المهانة، ولا بد فيه من التعب والنصب، تدل عليه السنة الصحيحة، ففي حديث عائشة رضي الله عنها في قصة الوحي ([38])، أخبرت رضي الله عنها أن جبريل أخذ النبي صلى الله عليه وسلم فغطه حتى بلغ منه ذلك المبلغ.

يقول بعض العلماء: إن جبريل غط النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات حتى رأى الموت –صلوات الله وسلامه عليه- وكان بالإمكان في أول مرة أن يقول له: اقرأ باسم ربك الذي خلق، قالوا: حتى يعرف طالب العلم أن العلم لا ينال إلا بالمهانة والتعب وبالنصب.

وكان إذا نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي يتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد، فإذا كان على ناقة جثت الناقة، وأصاب عنقها الأرض من شدة ما يناله –عليه الصلاة والسلام- عند نزول الوحي، فلا بد من الاختبار والامتحان في طلب العلم، فأول خطوة في الوحي أخذه جبريل فغطه حتى رأى الموت صلى الله عليه وسلم، وآخر لحظة من الدنيا قال فيها: آه .. إن للموت لسكرات.

العلم ثقيل، العلم رسالة عظيمة تحتاج إلى جهاد، تحتاج إلى صبر، وتحتاج إلى كفاح، تحتاج إلى تحمل واحتساب الأجر، وهذا نبي الله وكليمه ونجيه موسى –عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- الذي قال الله عز وجل فيه: ((وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)) [طه:39]. ما أعز الله شأنه ورفع ذكره وأصبح إمام بني إسرائيل في زمانه، إلا حين تعب وبذل في سبيل ذلك الجهد، يمشي على قدميه إلى مجمع البحرين قاصداً الخضر عليه السلام حتى أعيى، لم يستقر، ولم يهدأ له بال حتى يبلغ مكان العالم الذي ذكره الله له، الخضر عليه السلام: ((لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا)) [الكهف:60] أي حياتي كلها أبد الآباد وأنا أسير في البحث عنه.

فمشى مع غلامه يوشع بن نون حتى بلغ منه التعب والنصب مبلغه .. ((لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا)) [الكهف:62]. فرأى علامة مكان الخضر عندئذٍ، ولذلك قالوا: على قدر المشقة تكون من الله المعونة والمؤنة.

ولما أظهر للخضر عليه السلام حرصه على العلم، وطّنه بقوله: ((إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)) [الكهف:67]، وهذا أدب من العالم أن ينصح لطالب العلم، قال له موسى "سأصبر" ((سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا)) [الكهف:69]، علّق الصبر على المشيئة، ولم يعلّقه على قوته وحوله، من منا اليوم يقول هذا لمن يتعلّم منه، سأصبر ولا أعصي لك أمراً، ولذلك لما فقدنا الذلة للعلم فقدنا روح العلم، تجد العلم ولكن لا تجد روحانية هذا العلم في القلوب.

قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلاّم، إمام من أئمة السلف، كان آية في علم القرآن وتفسيره، حتى صار يحتج بأقواله في تفسير القرآن، وكذلك في اللغة والشعر، يقول رحمه الله: لما تعبت في تحصيل العلم، كنت أكدح، أسهر الليل، وأتعب النهار، وأجد المشقة، فإذا وجدت الحكمة والفائدة من العلم، نسيت ما وجدت من التعب، كل التعب يهون عندما أجد الحكمة.

وقال الإمام أبو حاتم ([39]) رحمه الله: مضت علينا أيام لم نطعم فيها مرقاً، فمن كثرة الدروس وحضور مجالس العلماء لا يجدون وقتاً لطبخ اللحم وشرب مرقته من جدّهم واجتهادهم في التحصيل، نسوا حتى حظوظ أنفسهم –رحمة الله عليهم-.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير