طالب العلم أعز شيء عنده: الوقت، خاصة إذا خرج في طلب العلم من مدينته إلى مدينة ثانية، ما ترك والديه، ولا ترك إخوانه ولا قرابته، ما تركهم عبثاً، ينبغي أن يحترق في قرارة قلبه على كل ساعة تضيع.
من أعظم الآفات التي تضيع على طالب العلم الخير الكثير: عدم الحرص على الوقت، ومن الحرص على الوقت إذا جلس طالب العلم مع طلاب العلم يستفيد، لا تجلس هكذا صامتاً، سلهم مسألة وإن كانوا دونك في العلم، اطرح عليهم مسألة، ثم علّمهم إياها، وإن كانوا أعلى منك تواضع وخذ منهم، وإن كانوا في مستواك ذاكرهم، فتكون دائماً في مذاكرة للعلم، فإن مذاكرة العلم عبادة تشتري بها رحمة الله، يحتسب في لحظاته وحركاته حتى إذا جلس مع الناس أن يستفيد أو يفيد، فهذه رسالة طالب العلم.
وإذا وفقه الله كان عنده الحرص على كل لحظة وعلى كل ساعة وعلى كل دقيقة أن تضيع هدراً، يغار على كل لحظة، يتذكر الوالدين، يتذكر الأبناء، يتذكر فلذات الكبد، الجيران، الخلان، الأحبة والإخوان، كلهم تركهم من أجل هذا العلم، إذاً فلا بد أن يُمضي الوقت في طاعة الله، وأن يستغل هذا الوقت في محبة الله ومرضاته، هذا من أهم ما يعتني به طالب العلم، وفي الحكمة: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك. فالوقت إما لك، وإما عليك.
قال الإمام مالك رحمه الله: ما دخلتُ على جعفر ([41]) إلا وجدته على إحدى ثلاث خلال: إما قائماً يصلي، أو جالساً يقرأ القرآن، أو جالساً يذكر الله، حتى كان بعض العلماء يقول: نِعْمَ –والله- الحال.
وأذكر بعض الفضلاء من أهل العلم كان من رفقائنا في طلب العلم، كنت إذا دخلت عليه أزوره، فأجلس أحادثه وأذاكره في المسائل، الكتاب في حجره، والله لا أخرج عن مذاكرة العلم قليلاً إلا تركني وأقبل على العلم ولم يجاملني.
ومما يعين على حفظ الوقت ([42]):
أ- كثرة ذكر الآخرة: فمن تذكر أنه ستمرّ عليه مثل هذه اللحظات حبيس الأجداث والبلى، فإن هذا يهون عليه أمر الدنيا، ويُحَسّسهُ كأن عمره قصيراً، فيستنفذه في الطاعة والخير.
ب- الابتعاد عن المعاصي، فقد يقصر في بر الوالدين أو صلة الأرحام فيحرم البركة في الوقت، كما قال سفيان: أذنبتُ ذنباً فحرمتُ لذة قيام الليل سنتين.
وليس من الحكمة أن تضع جدولاً لطلاب العلم لحفظ أوقاتهم؛ لأنهم يختلفون، فبعضهم لا يتمكن من الجلوس بعد الفجر أو الحفظ في آخر النهار، والبعض يناسبه السهر في طلب العلم، فوضْعُ منهجٍ معينٍ لتقسيم الأوقات من الصعوبة بمكان.
ولكن نضع لهم قواعداً تأسياً بالكتاب والسنة، (احرص على ما ينفعك)، وننبه على ما يضيع الوقت، مثل: قرين السوء ولو كان صالحاً، لكن ليس عنده عقل، فيضيع أوقاتك فيما لا خير فيه، فتفقد من حولك، فالقرين الصالح إذا رآك على خير سددك، وإذا رآك على تقصير نبهك وذكّرك، ولذلك قال بعض السلف: أخوف الناس فيك من نصحك، أي: أخوف الناس لله فيك.
إن أخاك الحق من كان معك
ومن يضرّ نفسه لينفعك
ومن إذا ريب الزمان صدعك
شتت فيك شمله ليجمعك
وكم من الجلساء إذا جلستَ معه قمتَ وإيمانك أزيد مما كان من الخير والبرّ والفائدة والحكمة.
وإذا لم تجد أعواناً وجلساء هذه صفاتهم، فاجلس مع السلف الصالح الأخيار في كتبهم ومؤلفاتهم وتراجمهم.
كان الوالد رحمه الله لا يحبّ ضياع الوقت حتى في المناسبات أو النزهة مع العلماء أو القرابة وغيرهم، والله؛ قلّ أن أراه يخرج إلا ومعه كتابه، فإن وجد المجلس فيه علم نافع ومذاكرة جلس، وإن وجد القيل والقال والغيبة، مضى إلى ظل شجرة فجلس يقرأ حتى يأتي الطعام، فيصيب منه ويجيب الدعوة وينصرف، ولا يسمح لأحد أن يضيع عليه وقته، إذا جاءه أحد يقول: فلان قال وفعل، يقول له: اسمع، إما أن تستفيد أو تقوم عني، وهكذا طالب العلم ينبغي أن يتفقد من حوله، ويحذر من الذي يفسد قلبه بالقيل والقال.
صلح قرين السوء للقرين كصلح اللحم للسكين
ينبغي لطالب العلم أن يغار على كل ساعة وعلى كل لحظة وعلى كل طرفة عين، ما تغرّب الإنسان عن أهله ولا فارق جيرانه ولا إخوانه عبثاً، فارقهم لشيء أعز وأنفس، وهو طاعة الله ومرضاته في طلب العلم، فهذا أمر ينبغي العناية به.
المَعْلَمْ السادس: اختيار الرفقة في الطلب:
¥