ومن الأمور التي كان العلماء يوصون بها طالب العلم أنه يبحث عن قرين صالح يعينه على طلب العلم .. يبحث عن شاب خيّر صالح، يعرف فيه الهمة والنشاط، فيتخذه بطانة له على الخير، ويشدّ من أزره، وكل منهما ينصح لأخيه، حتى يكونا من المرحومين الذين سمّى الله جل جلاله.
وكان السلف الصالح –رحمة الله عليهم- يعرفون أثر الرفقة في طلب العلم من الإعانة على الخير، قال تعالى عن نبيه موسى لما أوحى إليه بالرسالة: ((وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا)) [طه:29 - 35].
اشدد به أزري، وأشركه في أمري .. فجملة (كي نسبحك) .. تعليلية .. أي سألتك هذا لكي أكون أكثر عوناً على طاعتك، والقرين الصالح الذي تعرف فيه الهمة والنشاط يعينك وتعينه بإذن الله جل جلاله، وتكونا ممن وصفهم الله في كتابه المبين في قوله تعالى: ((وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)) [التوبة:71]، فهذا من ولاية المؤمن لأخيه المؤمن.
المَعْلَمْ السابع: الوصية بالرفقة:
لإخوانك في طلب العلم حق عليك عظيم، وواجب تجاههم جسيم، ينبغي إذا آخيت طالب العلم أن تشعره بالمحبة والمودة، ويتخلل الصحبة شيء من الوفاء ومن النقاء ومن الصفاء، بعيدة عن محقرات الأمور التي تكون فيها النفرة وتفريق القلوب، وكان طلاب العلم في القديم ترى بينهم التواضع والألفة.
كنت أجلس عند الوالد، ويجلس غيري عند غيره، فإذا كان قبل أذان العشاء بما يقرب ربع الساعة انتهى درس الوالد رحمه الله، فيأتيني هذا من حلقة ذاك وذاك، فنجلس، والله لا نشعر بيننا بفرقة، ولا يَنْتَقِصْ أحد منا شيخ الآخر، كل منا يسأل الآخر: ما الذي قال شيخك؟ حتى يستفيد منه وحتى يأخذ عنه، وتجد القلوب كالقلب الواحد، والنفوس متآلفة متراحمة متعاطفة.
والله وَصَفَ العوام من المؤمنين بأنهم متراحمون، وأنهم متعاطفون، فطلاب العلم أولى بالاتصاف بهذه الخصلة منهم. والجفاء والإعراض هذا ليس من خلق طلاب العلم.
فأخوة العلم من أعظم الأخوة في الله، فما أعظم هذا الدين، وما أجلّ رسالة رب العالمين، ما أجلّ هذا الدين الذي جمع بين عباد الله المفترقين، ما أعظم الإسلام الذي جعل المسلمين كالجسد الواحد يحس بعضهم بأحاسيس البعض، يعيش المسلم أشجان أخيه وأحزانه، فتجد المسلم في أقصى شرق الأرض يتألم لأخيه في أقصى الغرب، ولا يعرفه ولم ترَه عيناه، ولم تسمعه أذناه، ولكن يعلم أنه يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فيحبه لله، ويتألم لآلامه، يعيش ما يعيشه من أشجانه وأحزانه، ما أعظم هذا الدين، وما أعظم أثره على عباد الله المؤمنين، فمن واجب العلم ومن حقوق العلم على طلاب العلم أن يحفظوا حقوق إخوانهم المسلمين عموماً، سيما طلاب العلم، قال بعض العلماء: إن أصدق وأجمل ما تكون الأخوة إذا كانت في طلب العلم، لماذا؟ لأنهم اجتمعوا على أقدس شيء وأفضل شيء، وهو الدين الذي يدور عليه قطب هذه الحياة. وما خلق الله السموات والأرض، ولا كان الحساب ولا العَرْض إلا من أجل هذا الدين الذي يتعلمونه، فأقدس رابطة ربطت بين المسلمين رابطة الدين، وأشرف رابطة بين المؤمنين رابطة العلم.
ولذلك قالوا في الحكمة: العلم رحم بين أهله، ينبغي لطالب العلم أن يحقق مع إخوانه الأخوة في الله، وذلك يتحصل بأمور:
أولها: أن يحب لإخوانه ما يحبه لنفسه، حتى يكون مؤمناً حقاً.
ثانيها: إياك أن ينظر الله إليك تعادي طالب علم في غير حق، أو تحسده، أو تكنّ له البغضاء، أو تكنّ له الشحناء، أو تتربص به الدوائر، والله إذا علم منك ذلك سيكون لك بالرصد، فقد تعادي طالب علم حبيباً من أحباب الله يعاديك الله بعداوته، فاتَّقِ الله وراقب قلبك، طالب العلم الصادق لسانه كقلبه، والذي في قلبه على لسانه لا يغش، لا يظهر بمظهر خلاف ما في باطنه، ولا يظهر في علانيته خلاف ما في سريرته، نقي السريرة، حتى كان صلى الله عليه وسلم يقول: (دعوا لي أصحابي) ([43])، يريد أن يخرج نقي السريرة. أوصيك يا طالب العلم من الليلة أن تجتهد، أن لا ينظر الله إلى قلبك وفيه غلّ على مسلم، فضلاً عن طالب العلم.
¥