وهنا أذكر قصة تعتبر عبرة من العبر، أذكرها وقد حضرتها، وكنت طرفاً فيها، طالب علم أعرفه فظاً غليظاً، كان معنا في الطلب، وكان هذا الطالب من أحسن ما يكون عليه طالب العلم جداً واجتهاداً، فشاء الله في يوم من الأيام في نهاية العام أن جاءه طالب كثير الكسل والخمول، جاء إلى هذا المجد وقال له: يا أخي! أريد منك ملخصاً في مادة الأصول- وكان هذا يوم الأربعاء، والاختبار في يوم السبت-، فما كان من هذا الطالب المجد إلا أن نهره وكهره، واحتقره وازدراه وطرده من عنده. والله يا إخوان .. جاءني الطالب يريد الملخص ودمعه على خدّه من القهر، وأخبرني بما كان منه، فشاء الله أن أعطيته ملخّصي. فلما رجع من عنده قال: والله لقد دعوتُ عليه بالرسوب في المادة، لغلظته عليَّ وطردي، فشاء الله عز وجل أن جئنا في يوم السبت واختبرنا، فلما خرجتُ إذا بذلك الطالب المجد قد جاء متأخراً وعلى عينيه النوم كالمذعور الخائف، نام عن مادة الأصول .. نعم يا إخوان، إنها عبرة، فمن حَرم الناس من العلم حرمه الله التوفيق، ولذلك يقول بعض العلماء في حديث الهرة: (إن الله أدخل النار امرأةً في هرة حبستها، لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض). يقول: إذا كان الطعام والشراب، فكيف من حجب العلم عن أهله، فليتقِ الله طالب العلم، يتَّقِ الله عز وجل في حقوق العامة في العلم الذي عنده إذا جاؤوا يسألونه، وفي حقوق إخوانه وزملائه.
ولا نكن طلاب علم بحق إلا إذا كان بعضنا يشدّ من أزر بعض، وإذا كان طالب العلم أثناء العلم بخيلاً بالمعلومات، بخيلاً بالفائدة، بخيلاً ببذل العلم لإخوانه، فمتى يكون محدّثاً بذلك العلم؟ ومتى يبذل العلم للناس؟ فلذلك ينبغي لطالب العلم أن يترفع عن الشح وعن سوء القصد بإخوانه.
يا طالب العلم .. إنها والله أيام معدودة، وشهور معدودة، وسنوات معدودة، يفارق بعضنا بعضاً، فطوبى لطالب علم آخى إخوانه، نقي السريرة لله عز وجل، ما نظر الله إليه يوماً من الأيام وقد أسكن في قلبه غلاً على أخيه، لا يتهم أحداً، ولا يسيء الظن بأحد، يستجيب لله عز وجل ولوصية النبي صلى الله عليه وسلم.
قال عليه الصلاة والسلام: (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث) ([44]).
ثالثها: أن تعامل إخوانك برفق؛ لأن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه، فما ازدان طالب العلم بشيء مثل الرفق، خاصة مع إخوانه، ويكون هذا الرفق نابع من المحبة والتقدير والإجلال.
رابعها: إذا لقيت أخاك، هُشّ له وبشّ، فهذه الابتسامة التي تستهين بها قد يثقل الله بها ميزانك، ويعظم الله بها أجرك، فإن البسمة الواحدة للعبد بها صدقة، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق) ([45]).
فلا يليق بطالب العلم أن يمرّ على إخوانه ولا يهشّ في وجوههم، ولا يسلم السلام الذي هو من دلائل الإيمان، ومن موجبات المحبة ودخول الجنان، كيف يقف طالب العلم غداً أمام الناس يقول لهم: أفشوا السلام، وهو لا يُفشيه، ولذلك أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة، والأوس والخزرج بينهم العداوة، أول ما قال: (أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلوا الأرحام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام) ([46]).
فإن أحببت أن تدخل الجنة بسلام، فأفش السلام، وهشّ لأخيك وبشّ.
يا طالب العلم! ما المانع إذا لقيت أخاك سلمتَ عليه وسألته عن حاله حتى لو لم تعرفه، تتواضع لله، وتأخذ بيديه وتقول له: كيف حالك؟ وما أخبار المسلمين في بلادك؟ تسأله عن همومه، عن أشجانه، عن أحزانه، فلعلك أن تفيده برأيك، ولعلك أن تنير طريقه باقتراحك، ولعلك أن تجد فيه خصلة توجب لك حبه، ولعلك أن تجد فيه كربة تفرجها عنه، فيفرج الله عنك كرب الدنيا والآخرة.
خامسها: الذي ينبغي التنبيه عليه أن يحفظ طالب العلم عورات إخوانه، سيما طلاب العلم، أما كوننا يجلس بعضنا مع بعض فنذكر أخاً بسوء أو قد يصل الأمر إلى التهمة في العقيدة أو التهمة في السلوك أو التصرف، فهذا أمر –والله- من الخطورة بمكان، فلعل الرجل يكون على أصلح ما يكون، تخرج منه الكلمة يؤذي بها المسلم يوجب الله عز وجل له بها غضبه، قالوا: يا رسول الله! هي تصوم وتصلي، غير أنها تؤذي جارتها، قال: (هي في النار) ([47]).
¥