وإما إذا كنتَ مسترسلاً في غيبة الناس منذ بداية طلبك للعلم، فإنه –نسأل الله السلام والعافية- لا يأمن إذا جلس الناس بين يديك أن تعلّمهم الغيبة، وأن يصبح طلابك وأشياعك وأنصارك على هذه الوتيرة، وعلى هذا المنهج الذي هو زللٌ وخلل، فتمسي وتصبح وحسناتك في صحائف الناس .. نسأل الله السلامة والعافية.
ومن الأخلاق التي ينبغي أن يتحلى بها طالب العلم: التواضع، فيوطّن نفسه على توطئة الكَنَف .. يتواضع للناس .. ويكون قريباً من الناس عامّتهم وخاصّتهم.
قال صلى الله عليه وسلم: (ما تواضع أحد لله إلا رفعه) ([55]).
وإذا تواضع منذ بدايته للطلب فإنه أحرى أن يكون التواضع سجية فيه، دون تكلف إذا بلغ مبلغ العلماء.
وما أجمل العالم وما أحسنه، وما أكمله وأشرفه، إذا زيّنه صاحبه بالتواضع، فتواضع لعوام المسلمين وقضاء حوائجهم، وتأسى برسول الأمة حينما أمره الله بهذه الخلة الكريمة –صلوات الله وسلامه عليه-، فقال سبحانه: ((وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)) [الشعراء:215].
تتواضع وتكون سهلاً ميسراً حليماً، بعيداً عن الكبرياء، وبعيداً عن العُجب .. يكسر هذا العلم الذي تتعلمه قلبك لله، وتعلم أنه خليق بك إذا سرت على هذا النهج، وسرت على هذا السبيل –أعني طلب العلم- أن تتخلق بأخلاق أهل الجنة التي منها التواضع.
قال صلى الله عليه وسلم: (وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحدٌ لله إلا رَفَعه) ([56]).
يقولون: ما سلمت سريرة الإنسان إلا تواضع لله جل جلاله، فطالب العلم ينبغي أن يتحلى بالتواضع.
إن كريم الأصل كالغصن كُلّما ازداد من خيرٍ تواضع وانحنى
لا ترتفع على إخوانك، ولا على زملائك، ولا على أقرانك، ولكن تكون موطأ الكَنَف، حتى تصير من أهل الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة ... ؟! أحاسنكم أخلاقاً، الموطؤون أكنافاً، الذين يَألفون ويؤلفون) ([57]).
يكون طالب العلم منذ بداية طلبه للعلم فيه لين، وفيه رفق، وفيه يُسر، بعيداً عن الفظاظة، بعيداً عن العسر والأذية وسوء المنطق الذي يُنفّر الناس منه، فإذا تواضع الإنسان لله، كمّله ورَفعَ قَدْرَه، وكان في رحمة من الله سبحانه، وكان تواضعه قربة لله جل جلاله.
قال بعض السلف: والله ما دخلت مجلساً أرى نفسي أصغر الناس إلا خرجتُ وأنا أعلاهم، ولا دخلتُ مجلساً أرى نفسي أعلاهم إلا خرجتُ وقد وضعني الله أدناهم.
فالإنسان إذا تواضع لله جل جلاله رفع الله قدره، فلا يرفع الإنسان اجتهاده ولا كدحه، ولكن يرفعه الله جل جلاله.
وكان العلماء –رحمة الله عليهم- يكثرون من الوصية بالتواضع؛ لأن العلم فيه طفرة.
فمن ذلك: أن يأتيه بالعُجب، قالوا: أول العلم طفرة وغرور، وآخره انكسار وخشية لله سبحانه وتعالى.
أول العلم طفرة .. فتجد الإنسان إذا تعلم القليل من العلم، وكان في بدايته، ربما اغترّ، وربما أخذه شيء من العُجب والكبرياء، حتى تدخله الخشية لله جل جلاله، فتكسير قلبه لله سبحانه وتعالى، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل.
المَعْلَمْ التاسع: أخذ العلم عن أهله:
مما يوصى به طالب العلم أن يأخذ العلم عن أهله، أن يبحث عن العالم العامل الذي يذكّرك الله مخبره ومظهره، فوالله ما بحثت عن عالم صادق في علمه آخذ العلم عن أهله إلا اتصل سندك بالرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا أتيت يوم القيامة وقيل لك: لما أفتيت بكذا وكذا، فتقول: يا رب .. أخبرني فلان عن فلان حتى يتصل سندك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: (رضيت بمالك حجةً بيني وبين الله)، يعني إذا سألني الله يوم القيامة عمن أخذت العلم، قلت: عن مالك، ومن هو مالك؟ إنه ذلك الوعاء الذي قال فيه بعض أهل الحديث في زمانه: إنه المعنيّ بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل، فلا يجدون عالماً إلا عالم المدينة) ([58]).
روى مسلم في صحيحه عن الإمام محمد بن سيرين، فقيه التابعين أنه قال: (أيها الناس! إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذوا دينكم) ([59]).
¥