العلم دين وتجارة وعبودية ومعاملة مع الله تبارك وتعالى، ولا تجوز المجاملة في تلقي العلم، فإذا علمت أن الذي أمامك ليس من أهل العلم المشهود لهم أنهم أهل لتلقي العلم عنهم، فلتتقِ الله وتذهب تبحث عن من ينجيك بين يدي الله وتأتمنه على دينك، وإلا كنت شريكه في الإثم، وهذا الذي أضر اليوم كثيراً من طلاب العلم، فلا بد من الرجوع والطلب على أيدي العلماء، وترك أنصاف المتعلمين والجهال.
قال صلى الله عليه وسلم: (حتى إذا لم يَبْقَ عالمٌ، اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلّوا وأضلوا) ([60])، نسأل الله السلامة والعافية. وكان السلف الصالح –رحمهم الله- يعنون بذلك عناية عظيمة، روى الخطيب البغدادي رحمه الله عن إبراهيم النخعي –إمام من أئمة التابعين- قال: (كان الرجل إذا أراد أن يأخذ عن الرجل، نظر في صلاته، وفي حاله، وفي سمته، ثم يأخذ عنه) ([61]).
ينظر إلى عبادته لله عز وجل، وينظر إلى سيرته وأخلاقه وشمائله هل هي متفقة مع ذلك العلم أو تخالفه؟ فإن العلم إنما يؤخذ عن العلماء الربانيين.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله:
والجهل داءٌ قاتل وشفاؤه
أمران في التركيب متفقان
نص من القرآن أو من سنة
وطبيب ذاك العالم الرباني
فكم من قلوب كانت مريضة سقيمة شفاها الله بفضله، ثم بالعلماء الربانيين، أطباء الأرواح الذين يحسنون تعليم الأمة وهدايتها ودلالتها إلى صراط الله المستقيم.
وينبغي في العالم الذي تأخذ عنه أن تتوفر فيها خصلتان:
الأولى: صلاح السريرة، ويكون بالاستقامة في عقيدته ومنهجه وفكره، بإخلاصه لله عز وجل، وكلاهما له دلائل تدل عليه وتشهد بصدقه، فلا ينبغي لطلاب العلم أن يسلم زمام فكره إلى من ضلّ عن السبيل وفقدَ الحجة، وترك المحجة.
كم من عالم مليء بالعلم شانته أخلاقه، وشانته تصرفاته، وشانه سمته ودله، لا يخاف الله في كلامه، ولا يراقب الله في منطقه، يتتبع عورات المسلمين، ويثلب عباد الله المتقين، فالحذر الحذر أن تغتر من العالم بكثرة علمه دون أن يكون عنده ورع يمسك بزمام لسانه عن أن يقول على الله ما لا علم له، وقد كان العلماء –رحمهم الله- يختبرون الأئمة، يختبرونهم بالسؤال عمن لا علم لهم به، فإن وجدوهم وقّافين عن حدود الله، وقّافين عند محارم الله، أحبوهم ورضوهم في أخذ العلم عنهم.
الثانية: أن يكون صالح السيرة، حافظاً يحفظ عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فكما أن الأعمى لا يقود الأعمى، فكذلك الجاهل لا يقود الجاهل، لذلك ينبغي للإنسان أن يبحث عن هذا الصنف العالم المتمكن في علمه، المتمكن في فنّه، فمثل هذا حجة، وكفى به حجة.
إذا وجدت هذا العالم، فلا يخلو من حالتين:
أ- إما أن يكون في بلدك.
ب- وإما أن يكون في غير بلدك.
أ- فإن كان في بلدك: فاحرص مجالسه، واحرص على زيارته، فمن صفات طلاب العلم أنهم يحبون العلماء، وأنهم على صلة بأهل العلم والفضل، فلا يعرف الفضل لأهله إلا أهل الفضل، فاقبل عليه، واثبت عنده، ولذلك قالوا في الحكمة: من ثبت نبت، والمراد بالثبات: أن تلزم العالم وأن تأخذ عنه، وأن تحرص على الفائدة التي عنده، ولذلك قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: ثبتُ عند حماد بن أبي سليمان فنبتُّ، وقد عرَف السلف الصالح هذا الثبات، والذي ضرّ كثيراً من طلاب العلم في هذا الزمان أنهم لا يثبتون عند العلماء.
لذلك انظر في حال السلف، فعبد الله بن عباس رضي الله عنهما أخذ عنه عكرمة، وأخذ عنه مجاهد، ومكحول الشامي، وطاوس.
وعبد الله بن عمر أخذ عنه نافع وسالم وابنه، وما توفي أئمتهم وعلماؤهم إلا وكل واحد منهم قد أمسك بزمام العلم في بلده، وأصبح عَلَماً من أعلام المسلمين، وإمام من أئمة الدين، وورِثَ علم شيخه، وصار أشبه الناس بسمته ودله، وأحفظهم لأقواله وفتاويه واختياراته.
¥