ب- أن يكون هذا العالم في غير بلدك وفي غير موضعك: وحينئذٍ تحرص على الرحلة، غامر وتغرّب لوجه الله، واحتسب عند الله الخطوات من أجل لقاء العلماء، فإن الله تبارك وتعالى ذكر في كتابه الرحلة في طلب العلم، وحثّ عليها الأخيار، وشحذ إليها همم الأبرار، فقال سبحانه وتعالى: ((فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)) [التوبة:122]. وكان من هدي السلف الصالح: الرحلة في طلب العلم، ووالله ما أنَتشَرَتْ العلوم، ولا دُوّنت دواوين الإسلام، وحفظت كتبه بشيء مثل الرحلة في طلب العلم، هذه الرحلة التي لا يرفع فيها طالب العلم قدمه ويضعها –يتغرب عن الأوطان، ويفارق الأحبة والخلان، ويحتسب عند الله عز وجل، كل ذلك من أجل القرآن والسنة- إلا أحبه الله ورفع درجته وأعلى مكانته.
وإنني بهذه المناسبة والله، لأهنئ طلاب العلم بالجامعة الإسلامية إذ سافروا عن بلادهم، وتغربوا عن أوطانهم، هنيئاً لهم ([62])، إذ أقبلوا لها من كل حدَب وصوب، يرجون رحمة الله، ويرجون ما عند الله، نحسبهم ولا نزكيهم على الله أنهم جددوا مآثر الصحابة، فذكّر مقدمُهم المدينة بالوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الفارق بين الطائفتين، ومراعاة الفضل بين الفريقين، لذلك أحبتي في الله، فلا بد من الرحلة، ولا بد من السفر، ولا بد من الغربة، ولا بد أن تتعذب قبل أن تنال العلم، حتى يمحص الله إيمانك، ويظهر الله عز وجل فضلك وصلاحك وبرّك، يقولون: لا ينال العلم إلا بالجهاد، والله تعالى ذكر آية الرحلة - ((فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)) [التوبة:122]- في طلب العلم في سورة الجهاد، فختم بها سورة التوبة، ولم يقف الأمر عند ذلك، بل جعل الله الرحلة في طلب العلم، والجهاد في طلب العلم، سنة الأنبياء وسنة الصالحين.
هذا نبي الله موسى –عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- أخبره الله تعالى أن بمجمع البحرين من هو أعلم منه، عبداً علّمه الله من لدنه علماً- وهو الخضر عليه السلام-، فما إن بلغ الخبر إلى موسى، حتى قال: ((لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا)) [الكهف:60].
يقول بعض العلماء: لا أبرح: أي لا أنتظر ولا أجلس، ولا يقر لي قرار حتى أرى هذا العالم.
نبي يقول الله له: ((وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)) [طه:39]، كلمه الله تكليماً، وقرّبه نجياً، فخرج –صلوات الله وسلامه عليه- في رحلته الذي أبقاها الله إلى يوم الدين قصة وعبرة في كتابه المبين، والعجيب في القصة أنه كان بالإمكان أن يبين لنا حاله مع الخضر، دون ذكر تعبه في السفر، ودون ذكر مشقته في السفر.
يقول بعض العلماء: حتى يعلم طلاب العلم، ويعلم العلماء أنه لا بد في العلم من التعب والنصب، ولذلك مشى يوماً كاملاً من أجل أن يبلغ هذا العالم، حتى ضني في مشيه، ثم قال لفتاه يوشع بن نون: ((آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا)) [الكهف:62]، فأخبره ذلك الغلام أنه قد نسي الحوت، تصوّر! يوماً كاملاً يمشي فيه حتى نسي طعامه وشرابه كله، وشاء الله أن يلقاه، فقال له: ((هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا)) [الكهف:66] فرحاً بلقاء ذلك العالم.
وإذا كان الطالب مشغولاً في أيام الدراسة يغتنم أيام العطل، يسافر إلى العلماء، يتغرّب، فينظر الله إليه وقد غابت عليه شمس يوم وقد أغبرّت قدماه في سبيل الله جل جلاله، متحملاً المشاق والمتاعب، متقرباً بطلب أفضل وأشرف ما يرغب فيه ويطلب .. في هذه السنة شهراً، ثم في السنة الثانية شهراً أو شهرين، فيبارك الله له في علمه.
أعرف طلاباً يتغربون بالأسابيع، يتفقون مع الشيخ على أن يأتوه أسبوعاً يقرؤون عليه متناً أو كتاباً، فيفرّغ الشيخ لهم نفسه، ويعطيهم القدر الذي يسّره الله في هذه الفترة، فيحصلون بذلك خيراً كثيراً، وطلب العلم على قدر الطاقة.
المعْلَمْ العاشر: الاهتداء بالكتاب والسنة:
فلا خير في العلم إذا لم يُصحب بالاهتداء ([63]) بالكتاب والسنة، إنهما أساس العلوم ومنبعهما؛ وقد تكفل الله لمن اتبعهما بألا يضلّ أبداً ولا يشقى، تكفل الله لمن تمسك بوحيه بالسعادة وحسن الغاية وعظيم الرضا ((إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ ... )) [الإسراء:9] الآية.
من اهتدى بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، سار على الصراط المستقيم، والمنهج القويم، وعصمه الله من الفتن، وحفظه من المحن، وجعل في قلبه طمأنينةً، وفي صدره انشراحاً. ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)) [الأنعام:153].
فالناس تضلّ وهو يهتدي، والناس تنحرف وهو يسير على المنهج ((كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ)) [الفرقان:32]، حتى يلقى الله جل جلاله ... يلقاه بكتابه المبين، فإذا بالقرآن أمامه شفيعاً له بين يدي الله سبحانه وتعالى، فإن القرآن حجّاجٌ ([64]) لصاحبه بين يدي الله تعالى، حتى ينتهي به إلى الجنة.
فاتباع القرآن والسنة هو الاهتداء الحقيقي. ((وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)) [الأعراف:158].
فالعبد الذي يريد أن يبارك له في علمه، يعضّ بنواجذه على الكتاب والسنة، واتباع هذه الشريعة والملة.
فإذا تشعبت الآراء، وتباينت الأهواء، وكثرت المحن، وادلهمّت الفتن، وجد وحي الله منيراً مشرقاً، ليست به ضلالة ولا غواية.
¥