ووجدت لك مشاركات لم تتردد فيها في نقد غيرك على نحو مسجَّل ومشاهد، أسأل الله تعالى لي ولك ولسائر إخواننا السداد وخشيته في الغيب والشهادة وكلمة الحق في الغضب والرضا، وكظم الغيظ، وملك النفس عند الغضب الذي لا يكون العبد شديداً حقاً إلا به كما أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم:" إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" ....
وبعدُ
فقد راقتني عبارتك التي نقلتها عنك آنفاً فالحرية تقتضي عدم التردد في الحق إرادة وعملاً، والوضوح تقتضي عدم الغمغمة فيه علماً ونظراً، وباجتماع الأمرين بعد ثبوت حقية النقد في ميزان الحق سبحانه وشرعه الحق يكون النقد من باب النصيحة ويمكن لكل منصف الاستفادة منه إن شاء الله تعالى، وهو المأمول من كل من يدين بالإسلام ويطلب العلم ولا سيما سنة خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام.
وإذا كان الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، فمن آمن بالجنة وأراد أن يسعى لها سعيها لا بد أن يصدق إذا علم الصدق ويتحراه إذا أشكل عليه حتى يتبين له، وقد أمرنا الله تعالى أن نتعاون على البر كما نتعاون على التقوى، وأخبرنا نبيه صلى الله عليه وسلم بأن الصدق يهدي إليه، فالتعاون على الصدق من أهم ما يؤمر بالتعاون عليه، والصدق يكون في الأفعال كما يكون في الأقوال، فالصدق في الأفعال تحري تحقيقها والإتيان بها على مطابقة الحق الذي ينبغي أن يكون، والصدق في الأخبار مطابقتها للواقع الذي قد كان لا ما نحب أن يكون، فإن ما نحب كونه أمنية أو رغبة وليست واقعاً، فإن اتفق وقوع المخالفة بين الخبر والواقع فهو كذب في اللغة وإن لم يكن متعمداً كما قال عبادة رضي الله عنه في شأن الوتر: كذب أبو محمد، يريد أخبر بخلاف الواقع لا أنه تعمد ذلك، بل كذا جرى منه مع أن الظن بأبي محمد وهو صحابي أن يكون مجتهداً متحرياً للصدق، ولكن العصمة لا تجب لغير النبيين.
ولهذا عظمت الحاجة إلى التعاون عليه دلالة عليه وقبولاً له.
وليس في الدلالة على الصدق قدح ولا اتهام لأحد ما دام الإنسان معدن النسيان، ومركب الخطأ إذ كل ابن آدم خطاء، بل هو محض النصيحة، ولكن المحك في الرجوع إلى الحق، نسأل الله تعالى أن يمن علينا جميعاً به.
.. أرجو أن أكون قد ساهمت معك ومع الإخوان في تبيين نبل النقد الشرعي، وأحقيته بالانفراد بالساحة عن النقد غير الشرعي، كسائر الأمور الشرعية التي ينبغي أن تطْهُر أنفس المؤمنين وساحاتهم مما ينافيها ..
.. ولا شك أن الفضل للمتقدم، فشكراً لك.
وحتى يكون شكري عملياً مع الشكر القولي، ومناسباً أيضاً للمقام أختم هذه المشاركة بتوضيح أمر تقتضي منا الحقيقة توضيحه لا لشيء سوى إحقاق الحق، وإرضاء الملك الحق سبحانه، والظن بكل مؤمن به أن يرضى بما يرضيه تقدست أسماؤه.
قلتم سددكم الله: الذي زودني بهذه الأسماء هو المسند الشيخ أحمد عاشور المدني، والمقصود هو وجود الاسناد عندهم.
وللأخوة الشكر على ما أفادوا به، وهل من مزيد.
ودار حول هذه الإفادة من الإخوان ما دار ارتجالاً منهم وعلناً أمام من على ظهر الأرض اليوم ومن سيأتي ما دامت كتابتهم باقية، وأدى ذلك إلى مشاركتكم بتلك المشاركة التي قدمت الاقتباس منها واستلهام بعض ما فيها من الدلالات على المعاني الكريمة النافعة التي أحببت أن أتمثلها هاهنا.
وقد أدى هذا السجال حول هذه الجزئية إلى أن يُسأل الأخ الذي أضفتم إليه تزويدكم بهذه الأسماء عن ذلك كأن بعض الأخوان كان يحب لفرط غريزة المعرفة وحب الاستطلاع على حقيقة هذه الجزئية التي تصور لها أهمية ما، وكان من قدر الله تعالى أن أسمع الأخ الذي ذكرتموه ينفي معرفته بأحد من أصحاب الأسماء الستة فضلاً عن وجود صلة بينه وبينهم سوى الأول والثالث، وأما الثاني فذكر أنه سمع اسمه فقط، والبقية لم يتفق له معرفة أعيانهم ولا سماع أسمائهم إلا من خلال ما بلغه من هذه المشاركة.
والطريف أن الأخ المذكور لم يتذكر اسم حضرة الأخ صاحب المشاركة، وجزم أنه لم يجتمع به ولم يعرف شخصه قط، ولكنه اتهم الذاكرة في كونه هاتفه أو لا فلم يجزم بأحد الأمرين، ووكل الأمر إلى ما دونته الكرام الكاتبون الذين هم علينا بأمر الله حافظون، وكفى بالله رقيباً وحسيباً وشهيداً.
فلعل الأخ إن تأكدتم من موضوع المهاتفة يدخل في (باب من حدث ونسي)، أم إن ادعيتم اللقاء به فأخشى أن يدخل في (باب الاختلاط وسوء الحفظ)، ولا سيما أنه من مدة مديدة دخل في (باب من اشتغل وترك) واشتد عزوفه عن فن تتبع أخبار الناس أو توسيع دائرة العلاقات والمعارف وتحققت فيه مقولة الإمام سفيان الثوري في طالب العلم إذا تزوج ثم ولد له، ولا شك أن "من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب"!، وأرجو أن يتسع صدره إن اطلع على هذه المداعبة الأخوية أو بلغته عمن يطلع عليها.
ولكن ... أخشى أن يكون في عزوكم التزويد إليه ما لوحت به في حقه من الوهم والنسيان والغلط، وإذا كان الأكابر يقع منهم الغلط في عزو الأحاديث أحياناً إلى كتب خبروها أحسن الخبر، أفلا يقع خطأ في العزو إلى شخص لعلكم لم تسمعوا صوته إلا مرة.
وأرجو منك أيها الأخ وأنت صاحب النصائح في النقد الذاتي والحرية والوضوح أن يتسع صدرك إن كان الأمر كذلك، وننتظر منك حينئذ ما نؤمله فيك من شجاعة أدبية تقرر في نفوس إخوانك تثبتك في النقل، وتحريك للصواب، ونشدانك الحق ممن جاء به، ووفران الحظ من رأس مال المحدث الذي ذكره ابن معين أو غيره من أئمة المحدثين، فتدخل حينئذ في (باب أهل التثبت والصيانة، وتعاهد المنقول بما يوجب القبول).
.. وعندئذ فليقبل الأخ المعزو إليه المعذرة مني على المداعبة الدافئة وأرجو أن لا يكون عنده حساسية مفرطة من الحرارة فيتعبرها ساخنة، كما أرجو أن يعاونني على هذا الاعتذار الأخ كاتب الموضوع، وهو صاحب العبارة المليحة التي ساهمت في شرحها وتحشيتها تبرعاً، وعسى أن يكون ألطف مني حتى يكون أسوة لأمثالي في لطف الاعتذار كما دلتنا عبارته على نبل النقد وحريته ووضوحه.
ومقدماً أسأل الله تعالى أن يعمنا جميعاً والمؤمنين بمغفرته وعفوه، آمين.
وأحسب أن اللغط قد كثر فمست الحاجة إلى الكفارة النبوية: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
¥