تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (المجادلة: 11).

وذكر له قصة الإمام علي رضي الله عنه وقد سأله رجل مسألة فقال فيها, فقال الرجل: ليس كذلك يا أمير المؤمنين، ولكن الأمر كذا وكذا, فقال علي رضي الله عنه: "أصبت وأخطأت وفوق كل ذي علم عليم".

وذكر له أيضاً أن ابن عباس وزيداً رضي الله عنهما اختلفا في الحائض تنفر، فقال زيد: لا تنفر حتى يكون آخر عهدها الطواف بالبيت، وقال ابن عباس لزيد: سل نسّابتك أم سليمان وصويحباتها, فذهب زيد فسألهن ثم جاء وهو يضحك، فقال: القول ما قلت.

ولا أحصي عدد ما سمعته رحمة الله علينا وعليه يدعو إلى الاعتدال والإنصاف وينشد أبياتا منسوبة لأبي عمر بن عبد البر قالها حينما سمع قائلاً يقول: "لو أتتني مائة من الأحاديث رواها الثقة, وجاءني قول عن الإمام قدمته", فقال ابن عبد البر: يعقب هذا القول:

من استخف عاندا بنص ما عن النبي جا كفرته العلما

لذا فإنه يتعين على العاقل البصير أن يعلم الفرق بين الاتباع والتقليد الأعمى، وأن يعود إلى أهل البصيرة في هذا الشأن، ليقف على حقيقة الأمر، ويعلم جليته، وبذلك يبعد بتوفيق الله من الوقوع في مثل ما وقع فيه من رد عليه الحافظ ابن عبد البر رحمه الله بالأبيات الدالة على عظيم عنايته، ومدى حرصه على التمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وإنه بحمد الله قد ألف العلماء كتاباً في هذا الشأن يسترشد بها البصير ويستنير منها الراغب الخبير، ونحن في وقت عجت في المكتبات بالكتب المطبوعة والمخطوطة، وانتشر العلم، وعمت الثقافة بحيث أصبح العذر عديم الجدوى، والاحتجاج بالجهل قليل المفعول.

ومن هذه الكتب جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، وإيقاظ الهمم للفلاني, والاعتصام للشاطبي، والقول المفيد للشوكاني، وإرشاد الناقد للصنعاني، ورفع الملام عن الأئمة الأعلام لابن تيمية الحراني، وغيرها كثير وكثير.

ويعجبني في هذا الباب ما قاله منصور الفقيه المغربي رحمه الله:

خالفوني وأنكروا ما أقول قلتُ: لا تعجلوا فإني سؤول

ما تقولون في الكتاب فقولوا هو نور على الصواب دليل

وكذا سنة الرسول وقد أفلح من قال ما يقول الرسول

واتفاق الجميع أصل وما تنكر هذا وذا وذاك العقول

وكذا الحكم بالقياس فقلنا من جميل الرجال يأتي الجميل

فتعالوا نرد من كل قول ما نفى الأصلُ أو نفته الأصول

فأجابوا, وناظروا وإذا العلم لديهم هو اليسير القليل

هذا ولم يقصر الشيخ الأفريقي استفادته وتلقيه من دار الحديث فقط بل كان يتردد على الحلقات العلمية في المسجد النبوي، والمسجد النبوي جامعة من الجامعات وموضع إعداد القياديين من رجال العلم والفكر، وأرباب الشهامة والكرامات من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وكان يومها يعج بالطلاب الذين ينهلون من المورد الصافي، ويتزودون من ميراث النبوة ما يحيي قلوبهم ويهذب أخلاقهم، وتقر به عيونهم ونفوسهم.

وقد ظل المسجد إلى عهد قريب هو المدرسة لكل العلوم، وكانت أسطواناته وسواريه مسنداً لظهور العلماء والفقهاء، والمحدثين والمفسرين يتحلق حولهم الطلاب، وينهلون من علمهم وفقههم العديد من الطبقات وعلى مختلف الأعمار والفئات.

يتجول المرء في المسجد ليستمع إلى تلك الدروس ومتى أصغى إلى شيخ وأعجب من أسلوبه، وتمكن من الفهم منه جلس مع الملتفين حول الشيخ وأخذ ما شاء الله له من الفوائد وانصرف.

وللصبية الصغار حلقات وكتاتيب عند مدخل المسجد النبوي أذكر منها كتاب الشيخ التابعي والشيخ الرحالي، والشيخ مولود، والعريف بن سالم والعريف مصطفى والعريف جعفر فقيه, وغيرهم. وكل كتاب منها يعتبر مدرسة تتكون من عدة مراحل دارسية لدراسة القرآن الكريم، وبعض المبادئ الدينية، والأذكار النبوية التي ينبغي أن يلم بها المسلم.

أما تدريس الصغار للعلوم الشرعية فإن على الآباء أن يختاروا لأبنائهم الفقيه الذي يختارونه لذلك سواء كان التعليم في البيت أو المسجد ما داموا صغاراً، فإذا بلغ السن التي تؤهله لحمل الكتاب، ومزاحمة الرجال انتقل الأبناء إلى حلقات المسجد، وبذلك تكون رابطة الفرد بالمسجد وعلاقته به من الصبا إلى ما شاء الله.

وقد ورد في الحديث ما يدل على أن التعلم والتعليم في المساجد من أفضل القربات، من ذلك ما روى أحمد وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دخل مسجدنا هذا ليتعلم خيراً أو ليعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله، ومن دخل لغير ذلك كان كالناظر إلى ما ليس له".

وأنت خبير بقصة الثلاثة الذين دخلوا المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فيه مع أصحابه فأقبل أحدهم، واستحى الثاني, وأعرض الثالث، فأعرض الله عنه, وقصة دخوله صلى الله عليه وسلم المسجد مرة وإذا بحلقة علم وحلقة ذكر فجلس مع أهل العلم، وقال: "إنما بعثت معلماً", ناهيك عن خطب النبي صلى الله عليه وسلم فيه للجُمع وبعض المناسبات.

ويذكر العلماء أن تميماً الداري استأذن عمر رضي الله عنهما أن يقص في المسجد فأذن له عمر، واستمع ابن عمر وابن عباس إلى عبيد بن عمير في المسجد، وكان معاذ يستند إلى سارية في مسجد دمشق، وتلتف الناس حوله ليقص عليهم.

أما الاشتغال بالتذكير والفتوى في المساجد والدور بالمناسبات فقد حصل من العديد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم من التابعين وتابعيهم تولى بيان ذلك العلماء الذين عنوا بأخبار القصاص والوعاظ والمذكرين.

أقول: لذا فإن الشيخ الأفريقي رحمة الله علينا وعليه قد وجد ميراث النبوة وافراً بالمسجد النبوي، ووجد أساطين العلماء، وكبار المربين منتشرين فيه, ووجد العلم ثرا في الروضة اليانعة به. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا" قالوا: "يا رسول الله وما رياض الجنة؟ " قال: "حلق العلم".

فخاض الشيخ الأفريقي فيه ورتع، وأخذ من الثمار ما قدر له وكان للإخلاص والتقوى مفعولهما بعد توفيق الله وهو يقول: {وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ} (البقرة: 282).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير