(وَإذا حَلَّتِ الهِدَايَة ُ قَلباً
نَشَطَتْ لِلْعِبَادَةِ الأعْضَاءُ)
وَلهُ عَلَيَّ فَواضلُ عِدّة، مَعَ قِصَرِ المُدَّة، مِنْها أنَّه أنْعَمَ بالرضا بقِراءَتي عليهِ المُوَطَّأ وَالشمائِل، وَمَا خَطَّهُ ابنُ سُنبُل مِنَ الأوَائِل.
ثم زرتُ منبع الفوائدِ والذخائر، الخبير بالأعلامِ والعشائر، المؤرخ العلاَّمة، والأديب الفهامة، الكنز الثمين، محمدٌ الأمين، فاقتبستُ من فوائده، والتقطتُ من فرائده، وكنتُ من قبلُ راسلته عبرَ الأقلام والرقاع، فمنَّ اللهُ عليَّ وجعلَ الحديث من الشفاه إلى الأسماع.
ثمّ رَحَلتُ إلى الرباط، وَهيَ عَاصِمَة ُ المَملكةِ وَمَركزُ البَلاط، فسَكنتُ قُربَ مَكتبةِ الأمَان، وَهيَ مِنَ المَكتباتِ النادرةِ فِي هذا الزمَان، فَطَفِقْتُ أبحَثُ عَن بُيُوتِ العُلَماءِ وَالمَشايخ، مِن كلِّ حَِبْرٍ هُو في عُلومِ الفِقهِ وَالحَديثِ كالطودِ الراسِخ، وَكانَ مِنْ ذلكَ أنْ حَاوَلتُ الاتِّصالَ بالسيّدِ الربَاطي، فَأخبَرَتني حَرَمُهُ بأنَّه ُصارَ من الأمواتِ، فَنَصَحْتُ لَها بالاحْتِساب، ففيهِ مَزيدُ الأجْرِ وَالثوَاب.
ثمَّ زُرْتُ الشَيخَ ابنَ مَنصور، فَاسْتقبلَني وَمُحَيّاهُ طافِحٌ بالابتِهاجِ وَالسُرور، وَأهْداني مِن مُؤلَّفاتهِ النافِعة، وَتَحقيقاتِهِ اليانِعَة، جٌملة ً مِنَ الآثارِ وَالأعْلاق ِ النَفيسَةِ البَديعَة، المُزدانَةِ بالفُصولِ الضافيةِ عَن أحْوالِ أعْلامِ التأريخِ وَالشريعَة، فَممّا أهْداني، وَبِهِ حَباني فَأحْرَزَ شُكري لَهُ وَامتِناني، كِتابُهُ (أعْلام المَغرب) وَهوَ سِفْرٌ قَيِّمٌ شَائِقٌ مُمْتِعٌ مُطرب، عَن فََضلِهِ الجَمِّ وَسَعَةِ اطّلاعِهِ مُعْرب، حَوى كثيرا ً مِن التراجُم، لأهْلِ العِلمِ وَالأدَبِ مِمَّن ليْسَ لَهُم في مِضْمارِ الفَضيلَةِ مُزاحِم، وَكانَ قدْ شَغَلَ رئاسَة َ الديوان، وَجَالَ في الكثيرِ مِنَ البُلدان، وَهُوَ الآنَ مُؤرِّخُ المَمْلكةِ المُشارُ إليهِ بالبَنان، وَقدْ طابَقَ الخَبَرُ مِنهُ العِيان،
(وَمَن وَعى التأريخَ في صَدْرهِ
أضَافَ أعْماراً إلى عُمْرهِ)
ثمَّ عَكَفتُ في خِزانةِ المَخطوطات، وَهيَ في دُورٍ عامِرات، وَقدِ اعْتَنى بها القائِمونَ عَلَيها كلَّ العِنايَة، وَأوْلَوْها المَزيدَ مِنَ الصيانةِ وَالرعَايَة.
وبنبينٌ العلاَّمة، مديرُ الخزانة، وَوِشاحُ الفَضلِ وَالتواضُعِ أعلى قدره وَزانَه.
ثمَّ زُرتُ شَيخَ القُرّاءِ مُحمَّدَ بنَ المَكّيّ، وَتَنَسَّمْتُ نَوَافِحَ أرَجِهِ المِسْكِيّ، وَكانَ قَليلَ الكَلامِ وَالجِدال، إلاّ فيما يَقَعُ مِن إشكال، فقرأتُ عَليهِ الجَزَريَّة َ وَتُحْفَة َ الأطفال، وَفَتَحَ لي مِن مُبهَمَاتِ هذا الفنِّ الأقفال.
وممنْ دلني على بيوت العلماء والشيوخ، من أهْلِ العلم والرسُوخ، حمزةَ الكتاني، وليس له في الفضلِ والفضيلةِ ثاني، وهو باحثٌ أصيل، عالمٌ نبيل.
ثمَّ قَصَدتُ مَدينة َ سَلا، وَمَن حلَّ فيها عَنِ الأوطانِ سَلا، فَزُرتُ الأديبَ النجّار، طيِّبَ الحَسَبِ والنِجار، ثمَّ انتقلتُ إلى بَلدَةِ الجََديدَةِ المُعرِقةِ بمَجدِها الطارفِ وَالتليد، عَن طريقِ (السكّة الحَديد) فلازمتُ شيخَنا الحَجوجي مُلازَمَة َ الظِلّ، فَهَمَعَتْ عَلَيَّ هَوامِعُ إكرامِهِ بالوابلِ لا بالطَلّ، وقرأتُ عليهِ بَعضاً مِن كُتُبِ والدِهِ الشَيخِ الإمام، العلاّمةِ المُسْنِدِ الهُمام.
وقُبَيلَ الرَحيل، عَراني هَمٌّ ثقيل، ففِي وَقتِ السَحَر، ضَاعَتْ تَذكِرةِ السَفَر، وَأُلزمْتُ بالغَرامَة، فَدَفَعتُها بكلِّ كَرامَة، ثمّ ألْفَيْتُها في الكِتاب، فعَاتبتُ نَفسي وَلاتَ حِينَ عِتاب.
هذه المَقامَة ُ الوَجيزة ُ قدْ تَمَّتْ، وَببَعضِ الأحْداثِ قدْ ألَمَّت. فخُذهَا مُبادِرا، ولمُنشِئِها بالخَيرِ ذاكِرا، وانْظُر لَها بعَينِ الرضا وَالقَبول، وَذلِكَ مِنكَ ـ أيّها الأخُ الكريمُ ـ مُنتهى الرَجاءِ وَغايَة ُ المَأمول.
كَتَبَهَا أفقَرُ العَبيد، الراجي مِن اللهِ تعالى التأييدَ وَالتسدِيد، أقلُّ طَلَبَةِ العِلم ِ الطامِحُ مِنهُ إلى المَزيد، نَوّافُ ابنُ الرَشيد.
http://n-alrsheed.com/wp/?p=27