وقد أراد الله لمن حججت معهم أن لا تتمكن الحملة من اصطحابهم إلى منى يوم التروية، لظروف ليست بيدهم، فسمعت عجباً، ورأيت دموعاً حرة، ولمست شوقاً وحنيناً، وحسرة وألماً، فشكرت لهن هذا الشعور الجميل، وعززت فيهن هذا الحرص، مع إن المبيت بمنى يوم التروية من سنن الحج، وتمنيت أن يكون حرصنا على السنن طوال العام أقوى وأشد، فأن ذلك بيدنا وبمقدورنا، وهذا الأمر لا حيلة لنا فيه، ولعل الله يكتب لهن أجر النية الصادقة.
الزهد الحقيقي:
وفي الحج يتميز التقي الزاهد من الدعي المتزهد: فقد رأيت امرأة من علية القوم ومن طبقة الأمراء، في وسط الناس وعامتهم، لا تعرف بمكان خاص ولا تتميز بلقب، ولا يعرفها أحد إلا من كان قريباً منها، ومع ذلك تجدها في خدمة الناس، وفي وسط الناس تسلم على كبيرهم، وتساعد صغيرهم، وتستفيد من عالمهم، وتأكل إذا انتهى الناس، وتنام حيث ينتهي بها المقام، ومع ذلك رفع الله قدرها، وعز أمرها، ويسر لها قلوب من حولها.
عرفة ويوم الحشر:
حين دخولنا إلى عرفة، نظرت إلى أرضها فإذا هي أرض بيضاء لا بناء بها ولا جدار، فتذكرت أرض المحشر، قَالَ - صلى الله عليه وسلم - «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ كَقُرْصَةِ نَقِىٍّ».رواه البخاري
وتأملت في الناس حولي، فمنهم راكب، ومنهم ماش، ومنهم واقف، فتذكرت يوم الحشر، حيث يحشر الناس، على أصناف وأحوال مختلفة، قَالَ r « يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى ثَلاَثِ طَرَائِقَ، رَاغِبِينَ رَاهِبِينَ وَاثْنَانِ عَلَى بَعِيرٍ، وَثَلاَثَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَأَرْبَعَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَعَشَرَةٌ عَلَى بَعِيرٍ ... ».رواه البخاري.
وقبل الغروب كانت الأجواء روحانية، والنفوس خاشعة ومتوجه إلى بارئها، بدموع حارقة، وقلوب وجلة، تدعو دعاء مذنب مشفق، ومقصر هالك، ومعترف عاجز لا يملك حولاً ولا قوة، كل مشغول بنفسه، مذهول عمن حوله، تتسابق ضربات قلبه خوفاً من أن تسرق منه هذه اللحظات الغالية، ووجلاً من تسارع الدقائق والثواني، فقد أوشكت ساعة المغيب أن تحين، وكأن لسان حالهم يقول لها: مهلاً مهلاً، ورويداً رويداً، يتمنى بقاءها ولو للحظات قليلة ودقائق معدودة، فربما بقيت له دعوة لم يسعفه بها الوقت، وربما بقي له أمل في دعوة مستجابة لم يدركه بها الزمن، ومنظر الغروب يومها عجيباً مهيباً، وكأن الناس أول يوم يرقبون الغروب، وكأنها أول يوم تغرب عنهم، وأخيراً غربت الشمس، وفي النفس حسرة، وفي القلب غصة.
وفي يوم الحشر الشمس لها شأن آخر، حيث تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، وشتان بين الموقفين، فشمس بعيدة مرتقبة يتمنى الناس بقاءها وإمساكها عن الغروب، ليتمتعوا بها وبوقتها الفاضل، وشمس قريبة مهيبة محرقة، يتمنى الناس ارتفاعها وغروبها لينجوا من حرها، ويسلموا من عرقها الذي يكاد يلجمهم ويغرقهم.
رمي الجمرات عبودية وذكر:
عند خروجنا لرمي الجمرات، نظرت أمامي، فرأيت الناس مد البصر من كل حدب وصوب ينسلون، الجميع يتجه في اتجاه واحد، قلوبهم مقبلة طائعة، ونفوسهم خاشعة، وألسنتهم ذاكرة.
وعند رمي الجمرة ترى عجباً، الجميع يرمي شاخصاً لا يتحرك، ويستشعر بقوة لا تقهر، وهناك من يرمي بعدواة وانتقام، ومنهم من يسب ويشتم، ولكن لا حياة لمن تنادي، إننا لا نرمي شيطاناً يسمع، أو عدو يعقل، إنها العبودية لله تعالى، وإقامة ذكر الله، فنحن نتعبد الله برمينا وطوافنا وسائر أعمالنا في الحج.
بعد الرجوع من الرمي وفي طريقنا إلى المخيم، كانت الجموع العائدة كبيرة وعظيمة، سدت الطرق، فازدحم الطريق بأهله، وكان من الجميل أن تكبر هذه الحشود، ولكن برز من وسط الطريق طائفة تنادي بعبارات غير مشروعة، وتهتف بهتافات مبتدعة، فنظرت لمن أمامي وخلفي من شباب السنة الصامتين، فقلت لمن معي كبروا بارك الله فيكم، وأحيوا السنة، فانطلق الركب يكبرون، وكبر معهم من أمامهم وخلفهم، حتى غطى صوتهم المكان، وسكت صوت البدعة، ولم يجرؤ على الهتاف والعويل. فالحمد لله على منه وكرمه.
ضياع السنن:
¥