لكن لهذا العلم رجال وأي رجال، لهذا العلم أمة فرغت أوقاتها ترجو به رحمة الله، وتطمع في عفو الله سبحانه وتعالى، لها أخلاق سمت بها إلى أعالي الفضائل، وتنزهت بها من أدران الرذائل، لهذا العلم طلابه، يعظمون شأنه، ويعرفون قدره، الذين غرس الله في قلوبهم إعظام هذا الدين، ((وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ)) [الحج:30] .. ((وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)) [الحج:32].
هذا العلم قيض الله رجالاً شرّفهم لحمله، واصطفاهم لتبليغه، إنهم العلماء.
فإن الله أحب من عباده العلماء، واصطفاهم واجتباهم ورثةً للأنبياء، وزادهم من الخير والبر حتى صاروا من عباده الأتقياء السعداء، وأثنى عليهم في كتابه، فشرّفهم وكرّمهم، فقال –وهو أصدق القائلين-: ((إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)) [فاطر:28].
لذلك أحبتي في الله، هذه المسؤولية العظيمة، وهذه الأمانة الجليلة الكريمة، حملها العلماء العاملون، والثقات المعَدَّلون، حملوها فبلغوها عن الله، وأقاموا بها حجة الله على عباد الله، حملها الدعاة والفقهاء والمحدثون، والأئمة المهديون، إنهم أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، بهم بعد الله يُهتدى .. وبنهجهم يُحتذى ويُقتدى ..
فيالله، كم من أمة بهم اهتدت، وبعروة الله استمسكت، وكم من طالب علم علموه .. وتائه عن سبيل الرشد أرشدوه، وحائر عن صراط الله دلوه، ويالله كم دارس من العلم أحيوه، وكم شارد من العلم قيدوه، وكم أصل من الكتاب والسنة حرروه وضبطوه.
نوّر الله بهم ضمائر العباد، ودلّ بهم على سبيل الحق والرشاد، حملوا هذا العلم جيلاً بعد جيل، ورعيلاً بعد رعيل، لم ينقطع لهم في الله عز وجل أثر ولا قيل، حملوا هذا العلم لله، وبلغوه لوجه الله وابتغاء مرضاة الله، رجال العلم والعمل، وأهل الخير والفضل، فرحمة الله عليهم أجمعين، وجزاهم بأحسن الجزاء إلى يوم الدين.
أيها الأحبة في الله، أي مقام أشرف بأن تقوم يوماً من الأيام تخبر عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأي مقام أشرف حينما تصير أميناً على دين الله ووحي الله.
فمن قرأ القرآن فأحل حلاله، وحرم حرامه، وعرف شرعه وفق أحكامه، فقد حمل النبوة بين دفتي صدره.
من حمل هذا العلم المبارك فقد حمل ميراث النبوة، وشرّفه الله بخير كثير.
لكن وقفة قبل أن نصير إلى تلك الرياض العطرة، وتلك المجالس الكريمة النضرة، وقفة لكي نشحذ الهمم إلى أمور ينبغي أن يراعيها كل طالب علم، فلمجالس العلماء حقوق، ولطلب العلم حقوق.
ما من إنسان يفي لله عز وجل بهذه الحقوق إلا بارك الله له في علمه، وشرح صدره، ويسّر أمره.
وقفة مع آداب طلاب العلم مع العلماء، حتى نؤدي لهذا العلم حقه، ونؤدي إلى حملة الكتاب والسنة حقهم وقدرهم.
والذي جعل بعض طلبة العلم يسأمون ويملون من طول الزمان في الطلب، هو أنهم يحملون العلم أحمالاً على ظهورهم دون استشعار روحه وآدابه، فتجد طالب العلم يجمع الأقوال في المسألة والمناقشات، ويشتغل بها اشتغالاً جامداً يقسي القلب.
أما لو عرضت عليه المسألة، وتأملها ونظر الحق الذي فيها، وتعجب من فتح الله على العلماء، وأدرك فضل الله على هذا العالم في استنباطه ومناقشته، وسأل الله أن يفتح عليه كما فتح على ذلك العالم، وينظر في كتب السلف الزاخرة بهذه المسائل، ويقول: يا رب، كما وفقتهم وفقني بمثل هذه الروح والارتباط بالله جل وعلا، يزداد علمه وقربه إلى الله.
أيها الأحبة في الله، لقد تغيرت تلك الرياض الطيبة، وتغيرت تلك المجالس النيرة، التي كانت عامرة بالآداب والأخلاق، تغيرت بتلك الأخلاق الرديئة، تغيرت فأظلمت من بعد ضيائها، وتنكدت الأقدام في الدروب، وحادت عن علام الغيوب، لما فتنت بهذه المحنة العظيمة، وبليت الأمة في هذا العصر بداء الغرور، فسب السلف الصالح، وامتهنت كرامتهم، وأصبح العلماء يكابدون ويجاهدون من العناء والبلاء ما لا يُشكى إلا إلى الله وحده عز وجل.
وأصبح العبد يجد الشقاء في الجلوس فيها، فكم من كلمة نابية تسمع، وكم من تصرفات ممقوتة تُرى، لا ترى لها رادعاً، ولا ترى لها منكراً؛ لذلك جاءت أهمية هذا الموضوع.
¥