والدليل من الكتاب والسنة، فلا يجوز لأحد أن يجتهد وهو لم يبلغ درجة الاجتهاد، فمشاكل المسلمين العامة التي يتعلق بها مصير الأمة، لا يجوز أن تقول: حكمها كذا، هذه لها أهلها ومجامعها، إنها مشكلات والله لو عرضت على أئمة علماء من السلف لرعدت فرائصهم من خشية الله أن يتكلموا فيها؛ لأنها تحتاج إلى دراسة واستبيان واستقراء لدليل الكتاب والسنة، حتى يُفتي فيها.
فالتعجل في الفتوى دون علم آفة عظيمة، ولا يجوز لأحد أن يفتي فيما لا علم له، قال تعالى: ((قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ)) [ص:86]، قالوا: من التكلف الإفتاء فيما لا علم للإنسان به.
المَعْلَمَ السابع: معرفة حال المستفتي:
فينبغي على المفتي أن يكون على علم بالناس وأحوالهم، فمنهم المخادع، ومنهم الكذاب، ومنهم المغرض، ومنهم المفسد، فعليه أن يعرف أقدار الناس، وهذا يرجع إلى أصل السنة: من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيه الرجل فيسأله عن أفضل الأعمال وأحبها إلى الله، فيقول: (إيمان بالله)، ثم يسأله الثاني عن أحب الأعمال، فيقول: (الصلاة على وقتها)، ويسأله ثالث فيقول: (الجهاد في سبيل الله)، (حج مبرور)، قالوا: اختلف جوابه بحسب اختلاف أحوال السائلين.
وينبغي على المفتي أن يعرف أحوال السائلين وملابسات أسئلتهم، فإن بعض الفتاوَى تتأثر بمن يسأل، وتتأثر بمن يستفهم، فينبغي أن يكون الإنسان على بصيرة.
وقد يكون الغرض من السؤال الفتنة، فإن السائل قد يسألك عن مسألة تعلم أنه قد خالفك فيها شيخ فاضل وليس مراده جوابك، ولكن مراده الطعن في الشيخ الذي خالفك.
ومن هنا أنبّه على مسالة ينبغي أن يتفطّن لها طلاب العلم. إذا جاءك رجل وقال لك: الشيخ فلان يفتي بكذا وكذا، أنت تفتي بماذا؟ أو الشيخ يرى كذا وكذا، أنت ترى ماذا؟. إياك أن تجيبه حتى يتأدب؛ لأنه ربما كان الحق معك، فتخطئ هذا العالم، فتنزل مكانته عند الناس بسبب تخطئتك له، ولذلك قل له: لا تسألني عن فتوى عالم بعينه، ولكن سلني عن المسالة؛ لأنه لو كان يريد الحق لسألك عن المسالة دون ذكر أحد من العلماء، لكن كونه يقول: فلان أفتى، بِمَ تفتي؟ فهو يريد أحدكما، إما أن يريدك أو يريده، فإن كان العالم الذي سأل عنه مشهوراً معروفاً بالفضل فهو يريدك، وإن كان الذي سأل عنه عدوّاً له أو يكرهه أو يشنّع عليه المسائل فهو يريد من سأل عن فتواه .. فعليك أن تكون حذراً لبيباً.
ومن مراعاة حال المستفتي: الإشفاق والترفق بالسائل. مثال ذلك: لو جاءك رجل يسألك عن طلاق، ويغلب على ظنك أنك لو أفتيته أنه يصاب في نفسه، وهذا يقع، فإن الرجل يأتيك متوتر الأعصاب، شارد الذهن، مضطرباً في نفسه، قال كلمة لزوجته، لو قلت له: حكمها كذا، أو هي طالق، ربما يغشى عليه، وربما يصيبه مرض في عقله، ويترتب عليها من الخطر على السائل ما الله به عليم .. وهذا معروف.
قالوا: الحكمة أن تترفق به، تقول له: اسأل فلاناً، يقول: أفتني، تقول له: لعله أو يمكن أن يكون فيها طلاق، أو يحتمل أنها لا تطلق، تمهد له، لا تقل له مباشرة: طلقت عليك امرأتك، لكن تعطيه نوعاً من التخفيف عليه، فهذا من النصح لعامة المسلمين والترفق بهم في الفتوى.
الفصل الخامس
إجابات مُهِمّة عن أسئلة مُلِمّة
السؤال الأول:
هناك مقالة تفشَّت بين بعض طلاب العلم: وهي أن الدراسة النظامية في الجامعة أو غيرها تنافي الإخلاص، فما هو قول فضيلتكم ([95])؟
الجواب:
هذه مسألة تشكل على كثير من طلاب العلم، والذي يظهر -والعلم عند الله- أن ذلك ليس بصحيح؛ لأن هؤلاء التَبَس عليهم وجود فضل الدنيا مع العلم، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على أنه إذا كان السبب الداعي للعمل عند الطالب هو وجه الله، وجاءت حظوظ الدنيا بالتبع، أن ذلك لا يؤثر ولا يقدح في الإخلاص.
من أدلة الكتاب:
¥