تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وكذلك يواجهه في شروح الأحاديث: كشروح الإمام النووي، أو ابن حجر، أو الحافظ ابن دقيق، أو الحافظ العيني .. وغيرهم -رحمة الله على الجميع-.

ولو جئت تنظر في قول كل واحد منهم تقول: أبداً، هذا قوله راجح، ثم إذا جئت تقرأ لغيره، تجد قول الأول من أضعف ما يكون، ثم تجد جواباً عن هذا الجواب عند الأول، وتصبح في حيرة.

وحتى لو وصلت إلى نتيجة، لا تأمن من أنك كما قلت للقول الأول بأنه راجح، لا تزال مزعزع الثقة بقولك وما أنت عليه، ولو في آخر قول وصلت إليه.

ولذلك الأفضل الانضباط بأصل معين من البداية، وهذا الذي يميز فقه المتقدمين من الأئمة على غيرهم، تجد فقههم كالبناء، وأصولهم ثابتة ومنضبطة.

ومن هنا تلمس: أن بعض الفقهاء والعلماء له أقوال غريبة في المعاملات، فتتعجب كيف قال به في هذه المسألة، ويزول عجبك حين تعرف أن له أصلاً مشى عليه، واختاره ضابطاً له بقي عليه وثبت عليه.

مثلاً بعض المالكية يقول في المزارعة: إذا كانت الزراعة تابعة للنخل المسقي في حدود الثلث جاز أن تتبع، وإذا كانت أكثر من الثلث لا تتبع. فتستغرب من أين جاءوا بضابط الثلث، فتجد الإمام مالك رحمه الله أخذ من قوله عليه الصلاة والسلام: (الثلث والثلث كثير) ([140]) ضابطاً في القلة والكثرة، وهذا أصل اعتمده من السنة، وليس من هواه، فيقول: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فاعتبر الثلث ضابطاً في جميع الأبواب.

وهكذا الفقه عند المتقدمين، أصولهم في العبادات هي أصولهم في المعاملات، لا تتغير، ولا تتناقض ولا تختلف.

بخلاف بعض المؤلفات المعاصرة، خذه، تجده يرجّح بأصل من العبادات، يخالفه في المعاملات ولا يعتبره، مع أن المسألة في البابين مبنية على الأصل نفسه، فيناقض نفسه بنفسه، ويفتي هنا بالجواز، وهناك بعدمه، مع أن الأصل واحد؛ لأنه ينظر إلى كل مسألة منفصلة عن نظائرها وعن مقاصد الشريعة وبعيداً عن مجموعة الأحاديث التي وردت فيها، وليس هذا صنيع السلف -رحمة الله عليهم-، بل ربما نظروا إلى أصل مقصود الشرع، هل ينظر في هذا الباب إلى المسامحة أم التضييق؟ ومعهم ملكات تؤهلهم لذلك.

أئمة ودواوين علم، يحفظون القرآن والسنة، بل البعض يحفظ مئات آلاف الأحاديث.

فإذا جاء أحدهم للمسألة، يستحضر كل هذه النصوص وشتاتها في الكتاب والسنة، وقد تجد الحديث في الهبات، يستنبط منه دليلاً على مسألة ما في الصوم، والحديث في الصلاة وفيه دلالة على مسألة في العشرة الزوجية، وهذا فضل من الله، فاضل به بين العلماء، وظهرت فيه سعة وشمولية هذه الشريعة الكاملة، وظهر فيه فضل علماء السلف: بحسن الاستنباط وحُسن الفهم ودقة الوعي، بل ربما تجد الواحد يحدثك بقصة في آية قرآنية ويستنبط منها حكماً شرعياً ومسألة فقهية.

وهذا من فهمهم عن الله وارتباطهم بالكتاب والسنة، تجد الواحد منهم يقوم بهذا القرآن في ثلاث ليال. يختمونه فتمرّ بهم المسائل، ناهيك عن ورعهم وخوفهم من التقوّل على الله، وارتباطهم بالله، واستلهامهم منه التوفيق والسداد ([141])، والمقصود أن الذي يريد أن يضبط الفقه يضبطه بالأصول، ويتقيد بها دون تعصب ولا جمود، في مرحلية ينتقل إلى ما بعدها حتى يصل إلى مرتبة الاجتهاد.

كل ذلك بإخلاص وتعظيم لعلماء السلف، ومعرفة حقهم وعظيم فضلهم علينا.

فكم من قول ربما سخر طالب العلم منه واستهجنه واستبعده، يتبيّن له فيما بعد أنه الصواب، أو يتبيّن وجهه ودليله الذي يعذر به صاحبه أمام الله جل وعلا.

كنت أعجب من قول الإمام ابن جرير، شيخ المفسرين رحمه الله، يقول: إن فرض الأذن في الوضوء: الغسل كالوجه، وليس المسح فسألت الوالد -رحمة الله عليه-، فقال: لا تعجب يا بني، ألم يقل صلى الله عليه وسلم في دعاء سجود التلاوة (سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشقّ سمعه وبصره .. ) ([142]) الحديث، فأضاف السمع للوجه، وهذا وإن كان قولاً ضعيفاً ترده السنة القولية والفعلية، لكن المقصود هو معرفة قدرنا عند أولئك الرجال الذين حَوَتْ صدورهم الكتاب والسنة: ((بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ)) [العنكبوت:49]. نسأل الله لنا ولإخواننا العصمة من الزلل.

السؤال التاسع:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير