تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فهل يعلم احد أين أختي؟ لقد أراد لي والداي الحياة الماجدة الكريمة فربياني على الدين والخلق, وعلماني حتى نلت الشهادة الابتدائية وتهيأت للمتوسطة , وأطلعني أبي على روائع الأدب وكنوز المعرفة , وكان يرجوا لي مستقبلا فكان مستقبلي ... كان ... كان ... وشرقت بدمعها. لقد قتلوا أمي يوم الواقعة , فوقعت تتخبط بدمها. أما أبي فهرب بي وبأختي وانطلق يعدوا حتى لحقوه , فجعلوا يضربونه بأعقاب البنادق وبأيديهم وبأرجلهم حتى سقط , واستاقونا ... ورحت أتلفت وأنا أكاد اجن من الذعر, أنادي أبي , أبي ....

فسمع أبي , وشدت روح الأبوة وسلائق العروبة من عزمه , فنهض يسعى لينقذني. وكلما ونى ذكر أن ابنته التي رباها بدمه وغذاها من روحه ورجا لها المستقبل البارع ستغدوا امة لليهود , فتعاوده القوة , حتى استنفد آخر قطرة من قواه فسقط مرة ثانية قبل أن يدركنا.

تمر على الإنسان المصائب الثقال فينساها , يمرض حتى يتمنى الموت ثم يدركه الشفاء فينسى أيام المرض , ويموت اليفه حتى يعاف العيش ثم ينسى موت الحبيب, ولكن مصيبة الفتاة بعفافها لا تنسى حتى ترد ذكراها معها الموت.

لقد كانت هذه الساعة بداية آلامي التي سأحملها معي إلى القبر , فقدت الأب والأم , ثم فقدت العفاف وغدوت مثل البغايا و فأين عينا أبي ترياني؟ أين أبي؟ هل هو حي معذب مثلي أم قد مات واستراح؟ إني لأرجوا أن يكون قد مات. أفرأيت ابنة تتمنى الموت لأبيها؟ نعم, حتى لا يرى ما حل ببنته فيجد ما هو اشد عليه من الموت.ولما غدوت وحيدة في أيديهم وعرفت انه لا معين لي بعد أن فقدت أبي تنبهت القوة الكامنة في , وأمدني اليأس بالعزم , وشعرت أني كبرت فجأة حتى أصبحت بجنب أختي الصغيرة أما لها بعد أمها وأبا بعد أبيها , وأن علي أن احميها , وقلت لنفسي: إذا كانت الدجاجة تدفع عن فراخها النسر , والقطة- إن ضويقت واستيأست – تقاتل الذئب , فلم أعجز عن حماية هذه الطفلة؟ وقد كانت طفلة حقا , كانت في الثالثة عشرة, تبكى بكاء ما رأيت مثله وترتجف كل عضلة من جسمها كما ترتجف كل ورقة في الشجرة هبت عليها رياح الخريف.

وتنمرت واستبسلت دونها , ولكنهم غلبوني وأخذوها مني , ثم وضعوني في سيارة جيب مع ثلاثة من جنود يهود.وطفقت أدافع بيدي ورجلي وأعض بأسناني حتى عجز عني , أنا البنت الضعيفة , ثلاثة الرجال.فلو ان كل عربي من أهل فلسطين وكل امرأة وكل ولد كان قاتل بسلاحه وقاتل بعصاه وبحجارة ارض الوطن وبيديه وأسنانه لما استطاع اليهود ... ولما ذكرت اليهود ارتجفت من الخوف وتلفتت حولها تخشى ان تسرق همسها آذان خفية في الجار فتنقله إلى جلاديها.

قالت: وصب في الخوف على أختي قوة لم أكن أتصور أنها تكون لأحد , فاغتنمت لحظة غفلة ممن معي ووثبت من السيارة فوقعت على ركبتي.

وكشفت عن ركبتيها وقالت: انظر. ثم عاودها حياء العذراء التي كأنتها يوما والتي تقص قصتها وأسرعت فسترتها.

قالت: وجعلت اعدوا حافية (وقد سقط الحذاء من رجلي) على التراب والشوك حتى ولحقوا بي وأعادوني. ورجعت أدافع , فأحسست غرز إبرة في يدي, ثم لم اعد اشعر بشيء.

وسكتت لحظة وكادت من الحياء من الحياء يدخل بعضها ببعض , وصار وجهها بلون الجمرة , ثم تكلمت بصوت خافت كأنه آهات مكتومة لم أتبينها حتى دنوت منها ولفحت أنفاسها وجهي. قالت: ولما صحوت وجدتني متكشفة ملقاة على ارض السيارة.

وعادت تنشج ذلك النشيج الذي يفتت القلب.لقد أراقت دم عفافها، لأن رجال قومها لم يريقوا دم أجسادهم، لقد خدروها بهذه الإبرة كما خدروا زعماء العرب بالوعود وبالخدع وبحطام من الدنيا قليل.

قالت:وصرنا ننتقل من يد إلى يد, أنا وبنات قومي العرب كالإماء في سوق الرقيق. لم تهدر كراتنا وحدها ولم تضع أعراضنا فقط , بل لقد فقدنا صفات الإنسانية , غدونا "أشياء" تباع وتشترى ويساوم عليها , صارت لحومنا طعاما لضيوف اليهود.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير