وكنت أجيب بما يناسب مقام كل مجلس ويفيد منه الحاضرون، دون تقص أو تعمد بحثٍ عن الإجابة على هذه القضية، وحين كتب الله لي أول زيارةٍ ـ العام المنصرم ـ لبلاد الآباء والأجداد (شنقيط)، ووقفت على بعض المحاظر الحية القائمة على أطلال ورسوم المحاظر (1) العتيقة، وحظيت بلقاء أجلة فضلاء من علماء الشناقطة (2)، أدركوا أواخر نهضة علمية، كان من أبرز سماتها اعتمادها على حفظ الصدور لما وجد في السطور، وأن العلم هو ما حصل في الصدر ووعته الذاكرة متناً ومعنى، حتى غدا من أمثالهم التي تعبر عن هذا المعنى: (القراية في الرّاسْ ماهُ في فاس ولا مكناس) أي العلم المعتبر هو ما في حفظك، وليس في كثرة الذهاب إلى المدن الحضارية ومؤسسات التعليم فيها.
حين كتب الله لي تلك الزيارة كان مما يدور في خلدي الجواب عن السؤال المتقدم من واقع تجربة طلاب العلم في تلك المحاظر، فتجمعت عندي طرق كانت وراء تيسير الله للشناقطة ملكة حفظ نادرة، وطاقة ذهنية عالية جعلتهم يفخرون في ثقة واعتزاز بقدراتهم على استذكار عشرات الكتب، وجعلت العلامة سيدي محمد ابن العلاّمة سيدي عبد الله ابن الحاج إبراهيم العلوي ـ رحمه الله ـ (ت 1250هـ) يقول: (إن علوم المذاهب الأربعة لو رمي بجميع مراجعها في البحر لتمكنت أنا وتلميذي ألْفَغّ الديماني من إعادتها دون زيدٍ أو نقصان، هو يحمل المتن وأنا أمسك الشروح) (3).
وجعلت العلاّمة محمد محمود التّرْكُزي ـ رحمه الله ـ ت عام (1322هـ) يزهو بحافظته متحدياً الأزهريين بأنه أحق بإمامة اللغة والاجتهاد فيها منهم؛ لأنه يحفظ القاموس كحفظه الفاتحة، فاستبعدوا ذلك وعقدوا له مجلساً بالأزهر، فكان كما قال، فأقرّوا له وصاروا يصححون نسخهم من نسخة التركزي ـ رحمه الله ـ المحفوظة في صدره (4).
وقبل أن أتحفك ـ أخي القارئ ـ بشيء من طرقهم وأساليبهم في الحفظ تتضمن الإجابة عن السؤال المتقدم، أتحفك بأخبار القوم ونوادرهم في الحفظ، مما وجدته مسطوراً في كتب التراجم، أو محكياً على ألسنة الرواة، وسيتملكك العجب، وتعتريك الدهشة لسماعه، وتجزم معي بأن ما حباهم الله به من ذاكرة فذة، وقدرة على استحضار النصوص ربما لا توجد إلا في ذاكرة الحاسب الآلي، حتى صارت حكاياتهم في الحفظ غريبة تشبه الأساطير وما يجري مجرى خوارق العادات.
فمن ذلك ما ذُكر في ترجمة العلاّمة عبد الله بن عتيق اليعقوبي ـ رحمه الله ـ، (ت عام 1339هـ)، أنه كان يحفظ لسان العرب لابن منظور (5).
وكان الغلام في قبيلة مُدْلِشْ يحفظ (المدوّنة) في فقه الإمام مالك قبل بلوغه، وكانت توجد في قبيلة (جكانت) ثلاثمائة جارية تحفظ الموطأ فضلاً عن غيره من المتون، وفضلاً عن الرجال، ولهذا قيل: العلم جكني (6).
وروي عن الشيخ سيد المختار ابن الشيخ سيدي محمد ابن الشيخ أحمد بن سليمان (ت 1397م) حِفظ كثير من كتب المراجع مثل: فتح الباري، والإتقان للسيوطي، غير المتون والكتب التي تُدرّس في المحظرة (7).
ومن العجيب ما تجده من محفوظات فقهائهم غير متون الفقه والأصول وما يتعلق بالتخصص، فهذا قاضي (ولاته) وإمامها سيدي أحمد الولي بن أبي بكر المحجوب كان يحفظ مقامات الحريري، وليست من فنون القضاء ولا الفقه، وسمعتها عن الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي صاحب الأضواء ـ رحمة الله عليه (8).
وأما المتخصص في الأدب والشعر فلا يحفظ أقلّ من ألف بيت في كل بحر من بحور الشعر العملية؛ حتى تتهيأ له ملكة أدبية لينظم أو ينثر ما يريد.
فهذا العلامة الأديب محمد محمود بن أحمذيه (9) الحسني ـ رحمه الله ـ، كان يحفظ في الأدب وحده مقامات الحريري، والمستطرف، وكامل المبرد، والوسيط في أدباء شنقيط، وديوان المتنبي، وديوان أبي تمام، وديوان البحتري؛ هذا في الأدب وحده دون غيره من فنون ومتون المنهاج الدراسي المحظري (10).
ومن نوادر نساء الشناقطة في قوة الحفظ ما حدّث به العلاّمة محمد سالم بن عبد الودود أن أمه مريم بنت اللاّعمة كانت تحفظ القاموس، وقد استوعبته بطريقة غريبة، حيث كان والدها يرسلها من حين لآخر إلى خيمة أحد علماء الحي تنظر له معنى كلمة في القاموس ـ وكان هذا العالم ضاناً بنسخته لا يعيرها ـ فكانت البنت تحفظ معنى الكلمة وتعود بها إلى والدها وهكذا حتى حفظت مادة القاموس كلها.
¥