ثالثاً: وحدة المتن واستيفاؤه: فينصحون الطالب أن يشتغل بدراسة متن واحد يفرغ قلبه له، ويستجمع قوته لحفظه ولا يجمع إليه غيره، ولا ينتقل عنه حتى يستوفي دراسته كله، بل يرون أن جمع متنين معاً يحد من قدرة الطالب على الاستيعاب فيظل جهده الذهني موزعاً بين عدة متون لا يكاد يتقن أياً منها، كما أن بتر المتن دون حفظه كله يضيع جهد الدارس هباءً، وينم عن كسل وقصور في همة الطالب، ويمثلون لمن يروم حفظ نصين في وقت واحد بالتوأمين؛ فلا سبيل إلى خروجهما معاً في آن واحد، بل لا بد أن يسبق أحدهما الآخر، ونظموا هذا المبدأ بقولهم:
وإن تُرد تحصيلَ فَنّ تَمّمهْ وعن سواهُ قبل الانتهاءِ مَه
وفي ترادف الفنون المنعُ جا إذ توأمان اجتمعا لن يخرجا (18)
رابعاً: صياغة المتن المنثور نظماً:
لقد وظف الشناقطة ملكَة الشعر كثيراً في تيسير العلوم للحفظ، وضمان حظ أوفر من القبول والبقاء له، ولذا غلبت الصبغة النظمية في نظام الدرس المحظري.
وكما هو معلوم فإن النظم أسهل حفظاً واستحضاراً من النثر، قال ابن معط ـ رحمه الله ـ في خطبة ألفيّة في النحو:
لعلمهم بأن حفظ النظم وفق الذكي والبعيد الفهم
لا سيما مشطور بحر الرّجز إذا بُني على ازدواج موجز
وفي المحضرة قلّ أن تجد متناً يُدرس في فن إلا وجدت من نظمه حتى يسهل حفظه على الطلاب، فمن ذلك (19) أن أبا بكر بن الطفيل التشيتي ـ رحمه الله ـ (ت 1116هـ) نظم كتاب (قطر الندى) لابن هشام ـ رحمه الله ـ.
والعلامة محمد المامي الشمشوي ـ رحمه الله ـ (ت 1282هـ) عقد كتاب الأحكام السلطانية للماوردي بنظم سماه (زهر الرياض الورقية في عقد الأحكام الماوردية).
والعلامة الأديب عبد الله بن أحمد أُبّه الحسني نظم كتاب (مجمع الأمثال) للميداني.
خامساً: تركيزهم على بداية الحفظ والمراجعة المستمرة للمحفوظ، فعدد تكرار الطالب المتوسط للقدر المراد حفظه من مائة مرة إلى ألف مرة، ويسمونه بلغة المحاضر (أَقَبّاد) فيجلس طالب العلم يكرر لوحة بصوت مرتفع في الصباح (20) ثم يعود إليه بعد الظهر ثم بعد المغرب ثم من الغد يبدأ بمراجعته وتسميعه قبل أن يبدأ في درس جديد، وهكذا يفعل مع الدرس الجديد وفي نهاية الأسبوع تكون مراجعة لما حفظ من بداية الأسبوع مع ما قبله من المتن حتى ينتهي من المتن بهذه الطريقة، ثم يأخذ متناً آخر وتصبح لهذا المتن الأول ختمة أسبوعية يمر عليه كله، وبعد تثبيته في الذاكرة ومزاحمة غيره له، لا يصل الإهمال والانشغال أن يترك ختمة شهرية للمتن، وأعرف من المشايخ في المدينة النبوية من عنده ختمة أسبوعية للألفية ولمختصر خليل وختمة شهرية للمتون القصيرة كـ (لامية الأفعال) في الصرف لابن مالك والبيقونية والرحبية وبلوغ المرام وغيرها.
سادساً: حفظ النص قبل الحضور إلى الشيخ ليشرحه، وهذه من أهم الطرق التي تعين الطالب على متابعة الحفظ دون انقطاع أو تأخر، وكان شيخنا الشيخ سيد أحمد بن المعلوم البصادي ـ رحمه الله ـ لا يشرح لأي طالب نصاً حتى يسمعه منه غيباً، فيبدأ الشيخ في شرحه وتفكيك ما استغلق على الطالب فهمه.
سابعاً: لا يحفظ الطالب إلا ما يحتاجه ويمارسه في حياته من العلوم والأبواب في الفن.
فالطالب إذا كان يقرأ مختصراً فقهياً مثلاً، وبلغ في المتن كتاب الحج، ولم يكن من أهل الوجوب والاستطاعة فإنه يتعداه إلى غيره وهكذا في أبواب الفرائض والقضاء والجهاد وقِس على ذلك بقية الأبواب في الفنون المختلفة.
ثامناً: تأثر البيئة بالحركة العلمية: فقد خالط حفظ العلم في بلاد شنقيط حياة الناس هناك؛ ففي بلاد الزوايا (21)، يعتبرون من تقصير الأب في حق ابنه إذا بلغ وهو لا يحفظ القرآن حفظاً متقناً ولا يعرف من الأحكام ما يقيم به عباداته، ولا من العربية ما يصلح به لسانه، بل ينظرون إليه نظرة ازدراء واحتقار وأنه قد عق ابنه وقصّر في تربيته.
وكان من عادة أهل الشيخ القاضي (اجيجبه) أن لا يتسرول (22) الشاب منهم حتى يتم دراسة مختصر خليل، فحفظ المختصر عندهم شرط معتبر للرجولة وسمة للنضج.
وتجد أمثال العامة ومخاطباتهم خارج حلقات الدرس قد صبغت بلون المتون السائدة؛ فمن أمثالهم إذا أرادوا وصف الشيء بأنه بلغ إلى منتهاه يقولون: (لا حِق فلا إشكال) أي وصل في كذا إلى ذروته وعبارة (لاحق فلا إشكال) هي آخر جملة في مختصر الشيخ خليل.
¥