تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

لكن الأمر لم يسلمْ بعدُ من الخلل، فلم تزل نفسي بي: يومان في الأسبوع في إحدى الدُّور، دعوة وأجر واستغلال العلم، ولم تزلْ النفس بي حتى عملتُ معلمة في دار تَحفيظ، و"ألقيت" الصغار لأمي يومين في الأسبوع؛ لتربيهم عوضًا عني، بل ليربيهم كلُّ من أراد أن يربي من أخٍ وأختٍ وجارٍ يومين في الأسبوع، وأكمل أنا باقي الأسبوع بالضرب والصُّراخ، فالمسؤولية كبيرة، كبيرة والوقت قليل، فيومان قبل النُّزول أجمع المادة العلمية، ويومان أنزل، ويومان أستريح، ويوم أجلس معهم إن جلست على عَجَل، ولكنَّ المسؤوليةَ كانت على أمِّي الكبيرة عسيرةً، فاشتكت، بل ضَجَّ الجميعُ بالشكوى، وجأروا إلى الله، وكادوا أنْ يَخرجوا إلى الصُّعُدات مُستغيثين بربِّ العباد، ولكن قبل أن يفعلوها شعرت بالإرهاق من التوفيق بين الجميع، وقلت في نفسي: آمنت بالذي آمنتْ به ربَّاتُ البيوت الناصحات، من ضرورة القَرَار في البيوت لتربية الأولاد، كما ينبغي عليَّ العمل بالكتاب والسنة.

الآن وقد أضعتُ الأشهرَ والأعوام الثَّمينات! فاليوم إذْ تاب الله عليَّ نَجوت فيما يستقبل، فماذا عما مضى وضاع؟

ثُمَّ إنني رُزقت بأختٍ - أحسبها على خيرٍ - نَصَحتني في أولادي، ولفتتْ أنظاري، فأبصرت بعد العَمى، ولولا الله لَما اهتديت، فتساءلت: لماذا خيري ضائعٌ على الغرباء، ويتسوَّل أولادي الخير من الغرباء؟! لو كان هذا العلمُ مالاً، فأنفقته على الفقراء، وحرمت منه فلذاتِ كبدي، فتشردوا وضاعوا، هل سأكون عندها عاقلة؟! لماذا أُوهِم نفسي أنَّ أولادي لا يُمكن أن يتعلموا مني، وأنَّني لا أستطيعُ تربيتهم؟!

لماذا أكرر وأردِّد دائمًا أنَّهم مُنضبطون مع المعلمة الغريبة، أما معي فلا؟! فربَّما كان ذلك لأنني لم أطلبْ مدى علم وفقه تربيةِ الأولاد، كيف يُطاوعني العقلُ والقلب على إلقاء الصِّغار للغرباء في زمن الغربة والفتن، كلٌّ يدلو في عقولهم بدَلوه؟! ترى لماذا نَجد في بعض البيوت الأمَّ على دين وعلم، والأولادَ قد ضلوا في طُرقات الجهل والضَّلال؟! ولماذا أبْخَل على بيتي بالبسمة والسَّعادة والوقت، وأمنحهم للجميع في خارج البيت؟! لماذا تشتاقُ ابنتي لضَمَّة وقُبلة وأُذُن لها مُستمعة، وبنات الناس يتمنَّونَ لو أنني أمُّهم؟! لماذا يُحب ابني أصدقاءه، ويكره البيت، وإن مكث معنا اختفى في غرفته؟! طلبنا العلوم العديدة، ولم نتعلم فقهَ الزَّواج والتربية، وحصلنا على أعلى الشهادات، ولكننا لم نحصل على أهمِّ شهادة من أبنائنا وأزواجنا، شهادة حب.

فجلست مع أولادي جِلسة حب، وفعلتُ معهم ما كنت أفعل في الدَّار مع الكبار، وكانت دهشتي عظيمة من إقبالهم عليَّ يستمعون إليَّ، ويَحفظون ما أقول، ويُردِّدون في حبور، وكأنَّهم أرض جدباء ألقيتُ فيها الماء، فشربتْ حتى ارتوت، ثم أنبتت زرعًا بهيجًا، وفي خلال عام حقَّقت معهم ما لم أستطعْ أن أحقِّقَ مع الغرباء، وما لم يُحقِّقه المعلمون الغرباء مع لحمي ودمي، الذي كنت ألقيه لهم بإهمال غير مُدركة أنَّه كَنْز ثمين، وباب من الخير مَفتوح ليلَ نَهَارَ بلا رياء ولا افتخار.

ثم أقبل رمضان، وما أدراك ما رمضان؟! شهر العبادة والصيام وقراءة القرآن، وكانت عادتي من قبل أن أذهبَ عند أمي، فلا أبرُّها، وألقي لها أولادي؛ لأدخلَ غُرفتي القديمة، وأقرأ شاعرةً بالرِّضا كلَّ الرضا عن نفسي، أو أجلس في بيتي، وألقي لأولادي كلَّ ما يشتهون من اللعب، فهو وقت ابتزاز مثالي، لأقرأ فقط، وأقرأ وأنا أظن أنَّني بذلك قد أحسنت صُنعًا، وبلغت من الفقه ما بلغت، ولكن هذا العام يَختلف، هذا عام بدأته بالتقرُّب إلى الأولاد، وشعرت بحلاوةِ الإيمان الحقيقي، وأنا أتعبَّد لله فيهم، وأتعجَّب كيف كنت أهمل ذاك الباب؟! فكلُّ صلاة، وكلُّ تسبيحة تصدر عنهم في مَوازيني تُصَبُّ صبًّا، على قدر مَشقتي وإخلاصي معهم، واحترت ماذا أفعل؟ أأقبل على عبادتي، وأهمل أولادي كما هي عادتي أم ماذا أفعل؟

فذهبتُ أفعل مثلما كنت أفعل، ومر يَومي الأول بسلام، والحال على ما يُرام، عدا أن البيت لم يتنظف، وأنَّ الطَّعام لم يَتَنَضَّج، وأنَّ أولادي لم يكُن لهم في هذا اليوم أُمًَّا، فقط ... لا غير ... فهل ثَمَّ مشكلة؟!

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير