الأمر الثاني: حصول بعض الأمور بين محقق الطبعة المنتقدة والطبعة الجديدة، فيكون النقد من باب تصفية الحساب بين الطرفين، ويحرصُ المنتقد على التشهير بالمنتقد، تحت غطاء الرد العلمي، والنصيحة للأمة، علماً بأن سياق النقد يدل على أن في الأمر سراً لا يعرفه إلا من عرف المحققين، وعلمَ ما بينهما من أمور، والتي قد تكون: حول اختلاف المنهج العلمي أو الدعوي، أو حول حسابات مالية، أو نزاعات حول حقوق أحد الكتب ..
وأنا لا أتحدث عن هذا المزلق من محور الأمرين السابقين، بل أتحدث عن الظاهرة نفسها، وهي المبالغة في النقد، أما المسبب لها، فلا يعنيني هنا.
والاهتمام بنقد الطبعات السابقة عمل جيد، وللمحقق أن يشير إلى الطبعات السابقة لطبعته، ولا حرج في الكلام عليها بمدحٍ أو ذمٍ، حسب ما يراه المحقق، ولكن دون إسرافٍ في النقد، والموفق من المحققين من يستطيع اجمال النقد في فقرات معدودة.
«مثال ذلك»:
(1) «كتاب الصمت وآداب اللسان» لابن أبي الدنيا، فقد حققه الشيخ: أبو اسحاق الحويني وفقه الله، وتعرض في مقدمة تحقيقه إلى نقد طبعة الدكتور: نجم خلف وفقه الله، وكان ذكره لهذه الطبعة من أول مقدمة التحقيق إلى آخرها، من صفحة «5» إلى صفحة «20» وقد انتقده في «56» موضعاً، باستثناء ما ذكره كسقوط أحاديث كثيرة، ومثلَّ لها بعشرة أمثلة.
وجاء هذا النقد الطويل على حساب ترجمة المصنف، وذكر منهج التحقيق، والتعليق وكان يكفيه من هذه ثلاثة أمثلة، أو أربعة، مع ذكر نقد عام على هذه الطبعة في أسطر محدودة.
وطلاب العلم لهم القدرة على معرفة الطبعة الجيدة، من خلال مراجعتهم لكلتا الطبعتين.
(2): كتاب: «مفتاح دار السعادة» لابن القيم، فقد عقد محققه الشيخ: علي الحلبي - وفقه الله - مبحثاً بعنوان: «الطبعات السابقة ل: «مفتاح دار السعادة» عرضاً ونقداً»، وهو مبحث طويل جداً استهلك الصفحات من «1/ 45» إلى «1/ 99»، وقد تناول طبعات الكتاب بصفة مجملة في نصف صفحة، أما باقي الصفحات فقد خصصها لطبعة واحدة، والتي بتحقيق: الأستاذين: حسان عبدالمنان الطيي، وعصام فارس الحرستاني، فراح يتكلم عليها بالتفصيل الممل، حتى جاوز النقد «50» صفحة، مقسماً الأغلاط العلمية «حسب تعبيره» الموجودة في التحقيق المنتقد إلى أربعة أقسام، وفي نقده هذا تحامل ظاهر، فقد بالغ جداً في تتبع ونقد هذه الطبعة، وأكثر من ذكر الأمثلة على كل ما يقوله، بل قال في أحد المواضع بعد سرده عدة أمثلة:
«وعنده أحاديث أخر من هذه البابة، أعرضت عنها هنا!» «1/ 72».
وقال في موضعٍ أخر:
«وله من مثل هذا مواضع عدة» «1/ 83».
وقال في موضعٍ آخر:
«وما تركته أكثر» «1/ 98».
والغريب أنه قال عن هذا النقد المبني على تحليله للكتاب تحليلاً تكلف فيه:
إنها «دونما تقصٍّ، ومن غير تدقيق في المقابلة والموازنة!!» «1/ 46».
وهذا غير صحيح، بل ما خرجت هذه المواضع إلا بالتدقيق، والمقابلة، والموازنة مراتٍ، يعرف ذلك من تأمل هذه الملحوظات التي تجاوزت «200» موضع، غير ما أشار إليها ضمناً، وهي كثيرة جداً، ومن تتبع المواضع التي ذكرها، يجدها شملت المجلدين، كما شملت أول كل مجلد، ووسطه، وآخره، وبين ذلك.
والكل يعرف ما بين الحلبي وعبدالمنان، وكل يطعن في الآخر، لذلك تأهب كل نفرٍ منهما إلى تتبع زلاتِ الآخر، بكل دقة، ومقابلة، وموازنة، لفضحه بأسلوب لا يليق بطلاب العلم.
وتكون ثمرة هذا المزلق على حساب، الورق، وإلزام الناس بشراء، ما لو أُفرِد لما اشتروه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقد رأيت - كغيري - الكثير من المحققين - وفقهم الله - يسودون عشرات الأوراق في مقدمة تحقيقهم في الحط من قيمة الطبعات السابقة لطبعتهم.
وأنا لا أنكر وجود طبعات سقيمة همّ المحقق منها - أو الناشر - التجارة.
ولا أنكر عبث أهل الأهواء والبدع بكتب السلف.
ولا أنكر تطاول المتعالمين على فن التحقيق والتأليف.
ولكن أقصد بكلامي أن الاشارة إلى سوء الطبعة، أو جودتها يمكن أن يصاغ في فقرة لا تتجاوز الأسطر القليلة، ولا حرج لو كانت في صفحة أو صفحتين، ولكن بأمثلة تدل بوضوح على ما قيل في الطبعة المنتقدة، ولا حاجة إلى اشغال فكر القارئ للطبعة بكلامٍ خارجٍ عن الموضوع الذي أُلف الكتابُ «المحقَّق» من أجله.
¥