اضطرب مفهوم التحقيق عند بعض الدارسين الذين استهواهم هذا الاسم، فغدا
التحقيق في عملهم شرحاً لمتن، أو حاشية على الشرح، أو تقريراً على الحاشية،
يستعرض فيه أحدهم قدرته على تتبع كل كلمة في النص وشرحها. ومن أعجب ما
رأيت من هذا اللون من التحقيق ما أسميته بـ (التحقيق الأزهري)، (وللأزهر في
نفوسنا مكانة، فهو مقصد طلاب العلم والعلماء)، فقد لفت نظري إعلان عن كتاب
استهواني موضوعه، ولي فيه نوع اهتمام، وهو (تحرير المقال فيما يحلُّ ويحرم
من بيت المال) للحافظ تقي الدين، أبي بكر محمد بن محمد البلاطُسُني، تحقيق ودراسة: فتح الله محمد غازي الصباغ، منشورات دار الوفاء بالمنصورة الطبعة الأولى، 1409 هـ. واستعنت بالله ولم أستكثر الجنيهات التي دفعتها ثمناً له، فهو رسالة ماجستير قدمت لكلية الشريعة بالأزهر، وبإشراف أحد الدكاترة «الذي كان له الفضل في أن يسير البحث في خطواته الصحيحة (ليته كان) حتى وصل إلى الصورة التي عليها الآن» (كما يقول صاحب التحقيق والدراسة ص 16).وتجاوزت المقدمة والدراسة التي بلغت ثمانين صفحة، ووصلت إلى متن الكتاب نفسه، وأُصبت بصداع، وأظلمت الدنيا في عيني، وأسفت على الحال التي وصل إليها التحقيق ... فالمحقق وضع عنوان الكتاب في سطر واحد، وأمام كل كلمة رقم إحالة، وفي الهامش شرح لكل كلمة في العنوان: تحرير ... القول ...
الحلال ... الحرام ...
واستغرق هذا الجهد ستة وعشرين سطراً بحرف صغير حتى أتى على شرح
العنوان كله في ص (85). وفي الصفحة التالية: تعليقات ثمانية على سطرين
اثنين يشرح فيها المحقق لفظ (المقدمة) .. ولماذا بدأ المؤلف بالبسملة والحمدلة،
ثم شرح لمعاني المفردات! وفي ص (130) شرح للكلمات الآتية: الباب،
الفصل ... الخ
ثم قلبت ورقة واحدة، فوجدت هذا العنوان: (سبب تأليف الكتاب) وفي
الهامش مع الإحالة هكذا: (المحقق)، (يقصد أن العنوان من عمل المحقق) كثيراً
ما تطالعك هذه التعليقة البارعة. وبمناسبة ورود كلمة، (بدعة) في المقدمة، بدأ
صاحبنا يشرح معناها وأنواعها نقلاً عن الشاطبي والعز بن عبد السلام، -رحمهما
الله تعالى-. وعجبت من هذا الأسلوب في التحقيق أشد العجب، وقلت في نفسي:
لا ضير، فلكل شيخ طريقة، ولشيخنا هذا طريقة أقره عليها المشرف على الرسالة، ويبدوا أنهما لم يفرقا بين التأليف والشرح والتحقيق. ومن الطريف أن صاحبنا
رقَّم على غلاف الكتاب: (تحقيق ودراسة) وفي آخر الإهداء في ص (5) التوقيع: (المؤلف)، فهل هو محقق الكتاب أم المؤلف؟ أم أن الإهداء من البلاطسني
لوالديّ المحقق ولكل من يؤمن بالإسلام طريقاً للنجاة .. ؟!
وليت صاحبنا اقتصد في عمله، وقرأ كتاباً في أصول تحقيق النصوص
ونشرها إذن لأفاد واستفاد، وأراح واستراح.
وسار على هذا المنهج في التحقيق آخرون كما نجد في (المنتخب) للحافظ
عبد ابن حميد، تحقيق وتعليق أبي عبد الله مصطفى بن العدوي شلباية، الجزء
الأول، دار الأرقم، الكويت، الطبعة الأولى 1459 هـ. وأين هذا مما كان يفعله
علماؤنا في التحقيق وضبط النص، رغم أنهم لم يتبجحوا بهذه الكلمة التي ابتذلت
في أعمال كثير من الناس اليوم؟ ومن أراد معرفة ذلك فلينظر إلى كتب أدب الطلب، وليقرأ مقدمة كتاب «إرشاد الساري بشرح البخاري» للقسطلاني ص (39 - 41)، أو مقدمة الملاَّ علي القاري لكتابه (مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)!
-3 -
وإذا أردت صورة أخرى من التعالم في (التحقيق والضبط والمراجعة) فستجد
أمثلة كثيرة لذلك في الكتب التي أفسدها المحققون والمراجعون الأدعياء، الذين
يضعون أسماءهم على أغلفة هذه الكتب المظلومة المفترى عليها باسم التحقيق، وقد
شحنوها بالأخطاء الفاحشة والنقص والسقط، ولم يقابلوا نسخها المخطوطة، وهي
قريبة منهم وفي متناول أيديهم ولم يكلفوا أنفسهم عناء القراءة المتأنية للكتاب، ولم
يصححوا فيه خطأ، أو يضعوا عليه تعليقاً مفيداً، أو أن يصنعوا له الفهارس التي
تيسر الإفادة من الكتاب.
ولكي لا نكون ممن يلقى الكلام على عواهنه، نأخذ مثلاً على ذلك، وهو
كتاب (قواعد الأحكام في مصالح الأنام) للعز بن عبد السلام -رحمه الله-، الذي
¥