ـ[عبدالله بن خميس]ــــــــ[23 - 05 - 04, 02:59 ص]ـ
وقفات مع التحقيق والمحققين
(2)
محمد عبد الله آل شاكر
(يتابع الأستاذ محمد عبد الله آل شاكر وقفاته مع مدعي التحقيق، وينبه إلى
الاستهانة التي يرتكبها كثير ممن امتهن في هذه المهنة بكتب العلم وبأصول التحقيق
والنشر العلمي.)
- البيان -
- 5 -
أما إذا يممنا شطر كتب التفسير والحديث المحققة، فإننا نلاحظ جهداً مشكوراً، وعناية جاوزت الحد فانقلبت إلى الضد، مما أسميته (الكتابة على الهامش)،
حيث تطغى الهوامش والحواشي على المتن، دون ضبط النسبة بينهما، فتجد
أحدهم يخرج حديثاً واحداً في أربع صفحات، وقد يكون من أحاديث الشيخين
(البخاري ومسلم) مما قالوا عنه: إنه جاوز القنطرة، وهذا يريحنا من عناء البحث
والتعب، فالثقة حاصلة بصحته.
ولكن بعض المحققين يحلو له أن يستعرض عضلاته على القراء، فيضع
كتب الرجال والجرح والتعديل في الحاشية، مترجماً لكل راوٍ في السند حتى ولو
كان من مشاهير الصحابة أو الأئمة، ويتبع هذا مجموعة من المصادر للترجمة
تتكرر في كل صفحة تقريباً! كي يصل بعد هذا إلى الحكم على الإسناد، وغالباً ما
يكون مسبوقاً إلى هذا من الأئمة المحدثين والحفاظ. وكان من الأجدى والأيسر على
القارئ أن يشير إلى من فيه كلام من الرواة، دون الكلام على سائر رجال الإسناد.
وقد نعتذر لهم عن هذه الظاهرة، إذ قد يكون سببها أن الباحث بذل جهداً
وأضاع وقتاً في مراجعة المصادر، فأراد أن يشرك القارئ معه، ولم يضن عليه
بالعلم، فوضع كل ما قرأه في حاشية الكتاب، سواء كانت الحاجة تدعو إلى ذلك أو
لا تدعو إليه.
وهذا وإن كان يصلح في الأعمال العلمية بين جدران المعاهد والدراسات العليا
(لإعداد رسائل الماجستير والدكتوراه)، فما أظنه صالحاً عندما يعد الباحث رسالته
للنشر في كتاب يطرح في الأسواق بين القراء. مع ما فيه من إضاعة للجهد، ومن
تكاليف باهظة في الطباعة، وإعاقة عن إتمام التحقيق للكتب الكبيرة، فضلاً عن
تفريغ جيوب القراء وطلبة العلم والإثقال عليهم.
والأمثلة هنا كثيرة جداً، تعز على الحصر، ومن آخر ما اطلعت عليه مما
يصدق عليه كلامنا هذا، كتاب (مختصر استدراك الحافظ الذهبي على مستدرك
أبي عبد الله الحكم) لابن الملقن المتوفى سنة (804 هـ) في ستة أجزاء، تحقيق
ودراسة عبد الله بن حمد اللحيدان، دار العاصمة بالرياض، 1411 هـ. تجد فيه
المتن يقع في سطرين أو أكثر قليلاً، والتعليق والحواشي في (4) صفحات تبدأ
بذكر سند الحديث عند الحكم ثم تخريجه، يليه دراسة الإسناد ثم الحكم على الحديث، وغالباً تكون نسبة المتن إلى الحاشية 40/ 1، فكل سطر يقابله أربعون سطراً في
الحاشية.
وإليك المثال الثاني؛ (تفسير ابن أبي حاتم الرازي) فتحت الكتاب، دون
قصد صفحة معينة، فانفتح على الصفحتين (46 و 47)، وفي أولاهما أثر ساقه
المؤلف في تفسير قوله تعالى:] هو الذي أنزل عليك الكتاب [عن سعيد بن جبير
قال: (هو القرآن). وفي الحاشية دراسة لرجال الإسناد، ونتيجة لذلك تقع في
(52) سطراً بحرف دقيق، ويليها بيان درجة الأثر في (7) أسطر. فأنت أمام
تسعة وخمسين سطراً بحرف صغير، يعدل السطر منها ثلاثة في المتن، والمتن لا
يتجاوز السطرين بحرف كبير. فهل يستطيع القارئ أن يستخرج النسبة دون آلة
حاسبة! ترى ما هي حاجة القارئ إلى هذا الكلام كله عندما أصبح الكتاب متداولاً
بين القراء وطلبة العلم، ولم يعد رسالة علمية جامعية؟ رغم الجهد الطيب المبذول
لإخراج هذا الأثر النفيس، وجزى الله العاملين المخلصين كل خير.
ولست أدري كم يستغرق إخراج هذا الكتاب كاملاً؟ وكذلك كتاب (شُعَب
الإيمان) للبيهقي، الذي يطبع في الهند؟ وأمثالهما من الكتب والموسوعات!
- 6 -
ولعل تقاعس الهمم وفتور العزائم، أو النفور من الأعمال الكبيرة التي تحتاج
إلى وقت وصبر وجهد، جعلت بعض المحققين يصرفون عنايتهم إلى الأجزاء
الحديثة الصغيرة، وهي غالباً لا تضيف جديداً إلى كتب الأصول والمصادر
الأساسية المتداولة، تلك التي لم يخدم أكثرها خدمة طيبة تليق بها، إذا استثنينا ما
قام به الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، رحمه الله، من جهد في إخراج عدد منها
¥