العمالقة فسكتوا، أو إن ترفعوا فأغضوا؛ أفيسكت عن ذلك كله دعاة حقوق الإنسان؟ ويغضي عنه أناس لا تزال في رؤوسهم نخوة وحمية للإنسانية، وعندهم أثارة
من علم بعواقب هذا البغي والظلم للآخرين .. ؟
إذ هذا العدوان حرام آثم بحكم الشرع، وممقوت بغيض بنظر الإنسانية،
ومخاطرة كبيرة بنظر الواقع!
فقال آمناً مطمئناً: ومن ذا الذي حرّمه عليّ وأباحه لغيري؟ فتعجبت من
إصراره، وازددت عجباً من دعواه أن غيره أبيح له ذلك ففَعَله! فما سمعنا ولا
قرأنا - على الأقل في صحفنا العربية العتيدة - خبراً عن هذا الذي قام به غيره.
وحتى لا يتركني صاحبي في حيرة من أمري، وحتى لا أسترسل في عجبي
واستغرابي، اقتادني من يدي ليريني شاهد الصدق على ما يقول، واقعاً مشاهداً،
نراه بأم أعيننا، ونلمسه بأيدينا، ونتحسسه عن قرب .. فإذا وقع هذا، فلا أدلَّ
على المشروعية من وقوعه، ومن ثم فهو دليل وسابقة تدل على مشروعية ما يفكر
به صاحبي ويعزم على إنفاذه.
-2 -
دخلت مع صاحبي إلى مكتبته، فأخذ يتناول بعض ما فيها من مجلدات
وكتيبات، ثم يضعها أمامي، وكأنه يقول: هذا هو الدليل العملي الذي أريد أن
أقدمه بين يدي مشروعي ليدل على صوابه وجوازه، أي هذه هي السوابق التاريخية
التي أصبحت حجة، لأن أحداً لم يعترض عليها، فدل ذلك على الموافقة أو
الإجماع السكوتي على الأقل.
هذا هو كتاب (المغني) لابن قدامة المقدسي (ت 620 هـ)، موسوعة ضخمة في الفقه الإسلامي، تباهي به المكتبة الإسلامية، ويعتز بها الفقهاء، حتى قال عنه سلطان العلماء العز بن عبد السلام - وهو من هو في الإمامة في العلم والاجتهاد - قال عنه: (ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثل (المحلى والمجلى) لابن حزم، وكتاب (المغني) للشيخ موفق الدين بن قدامة، في جودتهما وتحقيق ما فيهما، ولم تطب نفسي بالفتيا حتى صارت نسخة من المغني عندي).
وما أظنني بعد كلمة العز هذه بحاجة إلى الحديث عن مكانة هذا الكتاب
الضخم، الذي بلغ عشر مجلدات كبار، وفي بعض الطبعات أكثر من هذا، ولكن
أحد الأساتذة المشاركين في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة قام باختصاره وسماه (المقني في اختصار المغني)، رأيت منه مجلدين اثنين، ينتهي الأول منهما بنهاية
كتاب الجنائز، قال فيه صاحبه: (ولعل كبر الكتاب وتوسعه قصر الاستفادة منه -
إلى حد كبير - على المتخصصين. ورغبة مني في المشاركة في خدمة هذا الكتاب
الجليل، ومن أجل تعميم الاستفادة منه، وتقريب تناوله أقدمت على اختصاره .. )
ص (5).
وعجبت لعمل الأخ الأستاذ، مرات.
أولاً: لأنه أستاذ في الجامعة الإسلامية التي كانت ولا تزال ولن تزال - إن
شاء الله تعالى - مركز إشعاع ونور وهداية، والتي نتوسم فيها وفي أساتذتها
ومشايخها أن يكونوا سداً منيعاً أمام سيل المختصرات والتشويهات التي بدأت تغمر
ساحتنا الفكرية، وأن يقولوا كلمة الفصل للتفريق بين هذا العبث وبين تذليل العلم
لطالبيه.
ثانياً: العجب من فكرة الاختصار نفسها بهذا الشكل؛ فإن هذا الكتاب الكبير،
لم يكتبه مؤلفه - رحمه الله - لعامة الناس من غير المتخصصين الذين نريد التيسير
لهم، ولهذا فإن عبارة الدكتور: (ولعل كبر الكتاب وتوسعه قصر الإفادة منه - إلى
حد كبير - على المتخصصين) لم تضف جديداً، مع أن هذا القول غير مسلم؛
فالمغني بعبارته السهلة التي تنساب انسياباً يمكن أن ينتفع به كثير من القراء الذين
يراجعون أمثال هذه الكتب، بَلْه المتخصصين من طلاب الشريعة. وهذا التوسع
في الكتاب هو ميزته الفذة.
أَوَليس هناك طريقة أخرى لخدمة الكتاب وتيسير الانتفاع به، كالفهرسة،
وإبراز بداية الفصول والأبواب والمسائل بخط واضح مثلاً يشير إلى موضوعها بما
يغني عن إدخال العناوين الجانبية في صلب الكتاب؟!
وإذا كان هذا المختصر يقع في ثماني مجلدات - كما علمت - فكيف يكون
تيسيره للقراء وتعميم الاستفادة منه وهو بحجم يعادل حجم الأصل، فإن كان ذلك
بتيسير شرائه، فإن القادر على شراء المختصر بهذا الحجم قادر على شراء الأصل
الذي يقاربه، ومن يقرأ في هذا لا يعجز عن القراءة والفهم في الأصل.
ثالثاً: طريقة الاختصار، التي ذهبت بجلّ حسنات وميزات (المغني) وله
¥