و مع ذلك فإن أبا حامد كان بشرًا من البشر وواحدًا من ولد آدم الذين قال فيهم رسول الله -صلي الله عليه و سلم- " كل بني آدم خطاء و خير الخطائون التوابون "
يقول تلميذه القاضي أبو بكر بن العربي -رحمه الله- و قد التقى به هنا في الإسكندرية:
" و كان أبو حامد تاجًا في همة الليالي, و يقظًا في لبدة المعاني, حتى أوغل في التصوف و أكثر من التطرف فخرج عن الحقيقة و خرج في أكثر أحواله عن الطريقة و جاء بالفاظ لا تطارق و معانٍ ليس لها مع الشريعة انتظام و لا اتساق "
فكان علماء بغداد يقولون: " لقد أصابت الإسلام فيه عينٌ "
ثم شرع الشيخ محمد اسماعيل في التكلم عن المآخذ التي على الشيخ و كتابه بأسلوب نقدي لا يجرح في الشيخ و من كلامه: و نحن ندرس سيرة الإمام أبي حامد -رحمه الله- حتى نأخذ العبرة و العظة.
و منها قوله " فكم رأينا عشرات الكفار يسلمون على يد أُناسٍ ما لهم علاقة بالإسلام و ينزن أن هذا هو الإسلام, لكن على أية حال فالإنسان يتعصب و يتمسك بأول من ينسبه إلى الإسلام, فإذا كان حظه سعيدًا وقع في يد واحد من اهل السنة فهذه من علامات إرادة الخير به, كما سنلاحظ أنه كانت نقطة البداية في تربية الإمام أبو حامد أنه نشأ في أحضان الصوفية و تربى في كنفها, و ترعرع في ظلالها, فإذا كان أبو حامد بدأ في الصوفية و تدرج إلي الباطنية و الفلاسفة و المتكلمين و ظن في النهاية أن طريق الخلاص و النجاة هو طريق التصوف ثم ندم بعد ذلك على هذا كله و رجع إلي منهج السلف الصالح و ألف و قال كلامًا عظيمًا جدًا في الإنتصار لعقيدة السلف في نهاية عمره و في آخر مؤلفاته و إن كان كما ذكرنا مات و البخاري على صدره من شدة اهتمامه و تعطشه إلى علم الحديث الذي أيقن أنه فرط في حقه كثيرًا: فعلينا أن نبدأ من حيث إنتهى الغزالي -رحمه الله تعالى- و أن ندقق في الطريق الذي سوف نسلكه قبل أن تطأه أقدامنا و ننفق فيه بضاعه العمر و إلا فإذا مشينا في طريقٍ مسدودٍ نقف في النهاية أمام سدٍ منيعٍ يحول بيننا و بين طريق النجاة فنعض أناملنا و يغشانا الندم و قد قيل فساد الإنتهاء من فساد الإبتداء)
2 - ... من كلام الشيخ محمد إسماعيل (حفظه الله):- عن علو الهمة:-
أنظر للإنصاف ....
يقول الشيخ محمد بن إسماعيل في كتابه علو الهمة: (بالرغم من التحفظات على فِكر ومنهج جماعة التبليغ إلا أننا نُقِرُّ بأنها أوْفرُ الجماعات حظا من علو الهمة في الحركة الواسعة الدَّءوب، ولهم في ذلك إنجازات رائعة أثمرت إسلامَ كثير من المشركين وهداية كثير من الفاسقين، وتبليغ دين الله في آفاق المعمورة.
حكى من شَهِدَ مجلسا لهم قال: جلسنا يوما في المسجد للتعارف، فقام شيخٌ وَقور يعرِّف نفسه، وقد جاوز السبعين من عمره: اسمي الحاج وحيد الدين، أعمل في التجارة، وعمري الآن تسع سنوات، فاستغربْنا، وقلنا في دَهْشَة: تسع سنوات؟! قال: نعم، لأنني أعتبر عمري ضائعا .. وكان هذا الرجل إذا وَعَظ قال: لا تضيّعوا أعماركم مثلي، واشتغلوا بالدعوة إلى الله تعالى.
وقد حدث أن سألنا أميرَهم: لماذا تذهبون إلى المقاهي لدعوة الناس. قال: أرأيتم إن كان عندكم مريض ماذا تفعلون له؟ قلنا: إن كان مرضُه ثقيلا نُحضر له الطبيب في المنزل، وأما إذا كان مرضه خفيفا فإنه يذهب بنفسه إلى الطبيب. قال: فكذلك الذين لم يعرفوا طريق المسجد، مرضهم الإيماني ثقيل، فنحن نذهب إليهم.
وسمعت بعض مشايخهم يروي موقفا تعرض له، إذْ خرج للدعوة في حانة خمر في مدينة أوروبية، واسْتَهْدَفَ رجلا مسلما كان يُجالس امرأة وهو يشرب الخمر، فوعظه ونصحه وذكّره بالله، حتى لان قلبه ودمعت عيناه، فأخذ بذراعه ليقوده إلى المسجد، وأخذت المرأة بذراعه الآخر تنازعه فيه، وكانت الغَلَبَةُ له بعد تَجَاذُب شديد من الطرفين، وأتى به إلى المسجد وعلّمه كيف يتطهر ويصلي ثم تاب وحَسُنَت توبته.
[1] نقلا عن علو الهمة لمحمد بن إسماعيل المقدم حفظه الله ص (264) فما بعدها.
¥