قلت يضعف هذا ان الاستثناء من الخلود يقتضي أن يكون بعد الدخول لا قبله سيما بعد قو له (ففي النار) وقد اشار إلى تضعيف هذا الوجه بما قلناه ابن تيمية في غضون أبحاثه في هذه المسألة قال ابن القيم وقالت فرقة هو استثناه الله تعالى ولا يفعله كما تقول والله لأضربنك إلا أن ارى غير ذلك وأنت لا تراه بل تجزم بضربه.
قلت هذا الوجه أحد وجهين ذكرهما جار الله في الكشاف في آية الأنعام فقال:
أو يكون يريد الاستثناء من قوله الموتور الذي ظفر بواتره ولم يزل يحرق عليه أنيابه وقد طلب منه أن ينفس عن خناقه أهلكني الله إن نفست عنك إلا إذا شئت وقد علم أنه لا يشاء إلا التشفي منه بأقصى ما يقدر عليه من التعنيف والتشديد فيكون قوله إلا إذا شئت من أشد الوعيد مع تهكم بالتوعد في خروجه في صورة الاستثناء الذي فيه أطماع انتهى.
واختار هذا الوجه صاحب الأتحاف والصفوى وهو مروي عن ابن عباس أخرجه البيهقي في البعث والنشور فقال قد شاء ربك أن يجعل هؤلاء في النار وهؤلاء في الجنة قلت إلا أنه يختلف صاحب الكشاف وصاحب الاتحاف في عصاة الموحدين فصاحب الكشاف يجعلهم داخلين في الذين شقوا لأن أصله أنهم لا يخرجون من النار وصاحب الإتحاف والصفوى يجعلانهم (داخلين في الذين سعدوا لقيام الأدلة عندهم بخروجهم من النار.
هذا وقد تعقب ابن الخطيب الرازي في مفتاح الغيب هذا الوجه فقال:
وهذا ضعيف لأن قوله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك معناه لأضربنك إلا إن رأيت أن أترك الضرب وهذا لا يدل على أن هذه الرؤية حصلت أم لا بخلاف قوله تعالى خالدين فيها ما دامت السموات والأرض فإن معناه الحكم بخلودهم فيها المدة التي يشاء ربك فيها فهذا يدل على أن المشيئة قد حصلت جزما فكيف يحسن قياس هذا الكلام وعلى ذلك انتهى.
ولا يخفى أن المشار المفروض واقع على هيأة القطع والجزم كما هو صريح كلام ابن القيم وصاحب الكشاف فقول الرازي وهذا لا يدل على أن هذه الرؤية قد حصلت أم لا خلاف المفروض وقوله فهذا يدل على أن المشيئة إلخ إن أراد مشيئة الخلود فهو مراد صاحب هذا القول كما يشعر به المثال وينطبق ويتعلق عليه وإن أراد مشيئة عدم الخلود كما هو مقتضى كلامه فمحل النزاع ولا يتم تضعيف كلام الخصم بإيراده كما لا يخفى.
ثم قال ابن القيم:
وقالت طائفة أخرى العرب إذا استثنت شيئا كثيرا مع مثله ومع ما هو أكثر منه كان معنى إلا في ذلك ومعنى الواو سواء والمعنى على هذا سوى ما شاء الله من الزيادة على مدة السموات والأرض وهذا قول الفراء وسيبويه يجعل إلا بمعنى لكن قالوا ونظير ذلك أن تقول لي عليك ألف إلا الألفين اللذين قبلهما أي سوى الألفين قال ابن جرير هذا أحد الوجهين إلى لأن الله لا خلف لوعده وقد وصل الاستثناء بقوله عطاء غير مجذوذ وقالوا نظيره أن تقول أسكنك داري حولا إلا ما شئت أي سوى ما شئت أو لكن ما شئت من الزيادة عليه.
وأقول: هذا مبني على أنه أريد بالسموات والأرض سموات الدنيا وأرضها أي مقدار بقاء دار الدنيا فإنه لو أراد سماء الأخرى وأرضها لما تم أن يقال إلا ما شاء الله من الزيادة على مدتهما فإنهما أبديتان ما لا يتصور عليهما زيادة والظاهر انه أريد من السموات والأرض سموات الآخرة وأرضها لأن آيات التأبيد في الفريقين قاضية بأبدية أرضها وسمواتها إذ لا بد لهم من شئ يقلهما وشئ فوقهما وهو المراد من سموات الآخرة وأرضها ولأن قوله (ما دامت السموات والأرض) ظاهر في ذلك إذ أن أرض الدنيا وسمواتها قد ذهبت ولو أريد لقيل ما كانت السموات والأرض.
ثم قال ابن القيم:
وقالت فرقة أخرى هذا الاستثناء إنما هو مدة احتباسهم عن الجنة ما بين الموت والبعث وهو البرزخ إلى أن يصيروا إلى الجنة ثم خلود الأبد فلم يغيبوا عن الجنة إلا بقدر إقامتهم في البرزخ.
وأقول فيه ما سلف في الوجه الأول وهو أن الاستثناء إنما هو بعد دخولهم الجنة.
ثم قال ابن القيم:
وقالت فرقة أخرى العزيمة قد وقعت لهم من الله بالخلود الدائم إلا أن يشاء الله خلاف ذلك اعلام لهم بأنهم مع خلودهم في مشيئته وهذا كما قال تعالى لنبيه ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك الاسراء 86 ونظائره يخبر عباده أن الأمور كلها بمشيئته ما شاء الله كان وما لم يشا لم يكن.
¥