وآخر يقول: لا لم يقل بفنائها , والعجب كل العجب أن غالب المتكلم هنا بالعواطف إلا القليل الذي يذكر كلام بعض المتأخرين من العلماء سواء كان يدافع عن ابن تيمية , أو يؤيد هذه الشبهة , كل هذا وكأنه ليس لابن تيمية رحمه الله كلام في المسألة , أو أننا ــ عفواً ــ لا نقرأ كتب العلماء حتى نستطيع أن نعرف مذاهبهم وأقوالهم حتى نرد الشبه والافتراءات الموجهة إليهم , أو حتى نجعلهم هم الذين يردون ويذبون عن أنفسهم ,
أقول هذا الكلام لأن هذه الفرية التي نسبت لشيخ الإسلام رحمه الله قد صدقها بعض الناس مع أن الرجل قد بيّن في كثير من كلامه أن هذا القول ــ أي فناء الجنة والنار إنما هو قول الجهمية والفلاسفة المتكلمين , بل قد نقل اتفاق السلف جميعاً على أبدية الجنة والنار , فكيف بعد ذلك يظن ظان أن شيخ الإسلام رحمه الله مع شدة اتباعه للسلف يخالفهم ويقول بما نسبه هو إلى الجهمية والضلال , فإن كان أصغر متدين فضلاً عن طالب علم لا يقبل هذا فكيف برجل هو آية من آيات الله تعالى في الدين والعلم والورع , وهو بحق شيخ الإسلام , وليس هذا غلواً ومن أراد معرفة قدر هذا الرجل فليرجع إلى ترجمته فسيرى فيها العجب العجاب.
وهذا بعض كلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ أسوقه إليكم:
قال في بيان تلبيس الجهمية " (جـ 1/ صـ 142):
(كلام المتكلمين والفلاسفة فيما يتناهى وفيما لا يتناهى فيه من الاضطراب ما ليس هذا موضعه فاحتاجوا أن يستدلوا على هذه بأدلة التزموا طردها فنشأ عن ذلك مذاهب أخر كنفي التناهي في المستقبل حتى قال طوائف منهم الجهم بوجوب فناء العالم لوجوب تناهيه أولا وآخرا فقال بفناء الجنة والنار وقال أبو الهذيل بوجوب فناء الحركات إلى مقالات).
وقال في صـ 152:
(وهذا الذي يذكره كثير من أهل الكلام الجهمة ونحوهم في الابتداء نظير ما يذكرونه في الانتهاء من أنه تفنى أجسام العالم حتى الجنة والنار أو الحركات أو ينكرون وجود النفس وأن لها نعيماً وعذاباً ويقولون إن ذلك إنما هو للبدن بلا نفس , ويزعمون أن الروح عرض من أعراض البدن , ونحو ذلك من المقالات التي خالفوا فيها الكتاب والسنة إذ كانوا فيها هم والفلاسفة على طرفي نقيض , وهذا الذي ابتدعه المتكلمون باطل باتفاق سلف الأمة وأئمتها).
وقال في صـ 549 من نفس المجلد السابق:
(ولهذا كان جهم وأبو الهذيل وهما إماما الجهمية وغيرهما لما قاسوا النهاية في الذات والمكان على النهاية في الوجود والزمان عدوا حكم هذا إلى حكم هذا وحكم هذا إلى حكم هذا فقال بان المخلوق يتثبت له النهايات جميعا وأثبتوها في الانتهاء فقال الجهم بفناء الجنة والنار وقال أبو الهذيل بفناء الحركات كلها).
وقال في صـ581:
(وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة على أن من المخلوقات ما لا يعدم ولا يفنى بالكلية كالجنة والنار والعرش وغير ذلك , ولم يقل بفناء جميع المخلوقات إلا طائفة من أهل الكلام المبتدعين كالجهم بن صفوان ومن وافقه من المعتزلة ونحوهم وهذا قول باطل يخالف كتاب الله وسنة رسوله وإجماع سلف الأمة وأئمتها لما في ذلك من الدلالة على بقاء الجنة وأهلها وبقاء غير ذلك مما لا تتسع هذه الورقة لذكره وقد استدل طوائف من أهل الكلام والمتفلسفة على امتناع فناء جمع المخلوقات بأدلة عقلية).
ومن ذلك أيضاً أنه في رسالته " نقض مراتب الإجماع " وتعقبه لابن حزم في ادعاءه الإجماع في بعض المسائل لم يعقب عليه حين قال (وأن النار حق , وأنها دار عذاب أبداً لا تفنى ولا يفنى أهلها بلا نهاية) , فكان عدم تعقبه له إقرار له على قوله ,
ولو أن لشيخ الإسلام كلام آخر في المسألة فإنه من المستحيل في كثرة ما كتب أن لايكتب عن إعتقاده في المسألة ولو مرة واحدة , وكيف يظن به هذا وصنيعه في عزوه هذا القول للجهمية والفلاسفة يدل على تقبيحه للقول ,
ولعل هذا هو ما دعا الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن القاسم رحمهما الله ــ وهو ووالده من أعلم الناس بكلام ابن تيمية إذ أنهما قد أفنيا عمريهما في تجميع كلامه من جميع دول العالم ــ أن يقول معلقاً على كلام ابن تيمية في صـ 157 حين قال (ثم أخبر ببقاء الجنة والنار بقاءا مطلقا) , قال: وهذا مع ما يأتي يكذب ما افتراه عليه أعداؤه من القول بفناء النار.
ومع كل هذا فما قرأنا ولا سمعنا ممن يشنع على الرجل أنه جاء عنه بنص صريح , أو بنقل صحيح فيما ادعى ,
أما ذلك الكتاب المزعوم ففي النفس منه شيىء , فمن أراد أن يحتج بما فيه فعليه أولاً أن يثبت العرش ثم بعد ذلك لينقش.
فالذي ينبغي علينا هو قراءة كتب العلماء المتقدمين ومعرفة مذاهبهم أولاً , أما أن نخوض في الكلام بقيل وقال فليس هذا بنذير خير من نشأ الأمة الذين يفترض أنهم هم رجالها وعلماؤها والذابين عنها في غد ,
أسأل الله عز وجل أن يلهمنا رشدنا وأن يهدينا سواء السبيل.
¥