ومن الحكم: دوام ظهور آثار أسماء الرب عزّ وجل التي بها تتحقق الألوهية، ويتحقق العقاب الرادع للكفار كالعزيز والقهار وغيرها.
ومن الحكم: جعل العقاب بحيث يترتب على العلم به غايته التي أُريد لأجلها من منع انتشار الكفر إلى حد يفسد الكون قبل أجله المسمى.
ومنها: جعل العقاب مناسباً للجريمة في عدم التناهي، لما علم من أن خبث الكفر لا حد له، هذا إضافة إلى ما ذكره أهل العلم من بعض الحكم من خلق الشرور (113).
ومن حكمته - سبحانه - إنفاذ وعيد الكفار، بخلاف وعيد المؤمنين فيجوز إخلافه كما قال تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48، 116] أي ما دون الشرك من المعاصي، وقد أوجب الله على نفسه إنفاذ الوعيد في حق الكفار كما قال تعالى: {قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [ق~: 28 - 29].
وقال سبحانه: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [لقمان: 33]، بعد قوله: {وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً} [لقمان: 33]، وقال - سبحانه -: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} [الطور: 7]، هذا إضافة إلى أن النصوص الشرعية قد أكدت وقررت دوام النار وعذابها لأهلها من الكفار، والله أعلم (114).
وفي الجملة فإن القائلين بفناء النار يمكن أن يكون النقاش معهم على طرق متعددة - كما سبق - ويمكن أن يقال لهم: أين يذهب أهل النار بعد فناء النار؟ إن قيل: يبقون بلا عذاب، فهذا لا دليل عليه، بل الدليل على خلافه، فقد أخبر الله عزّ وجل أن الناس يوم القيامة فريقان لا ثالث لهما {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7]، وأخبر أن عذاب الكفار دائم لا يخفف عنهم، ولا هم ينظرون، وأنه لا يفتر عنهم، وأنهم ماكثون، وخالدون، ولو كانت النار تفنى لكان هذا من تخفيف العذاب عنهم.
وإن قيل: إنهم يموتون ويفنون بعد حين: فقد دل الدليل على خلافه؛ بأن أهل النار {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36]، وما ورد في الحديث الصحيح من ذبح الموت حين يؤتى به على صورة كبش، ويقال لأهل الجنة ولأهل النار: خلود فلا موت.
وإن قيل إنهم يخرجون منها: فقد دل الدليل على خلافه، ذلك أن الله عزّ وجل قال عنهم: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج: 22]، ولم يحدد في النصوص مقرهم لو خرجوا منها، وهم - قطعاً - لا يذهبون إلى الجنة.
وتلاحظ الحرفية الزائدة، والظاهرية المتكلفة عند القائلين بفناء النار، فهم يذكرون أن الله سبحانه وتعالى أخبر بخلود أهل النار فيها، لكنه لم يخبر أنها لا تفنى!، وهل الخلود الأبدي إلا أبدية النار ودوام عذابها؟.
ويمكن أن يعكس عليهم الدليل فيقال: إن الله عزّ وجل لم يخبر عن النار أنها تفنى، بل ذكر المشيئة - كما ذكرها في الجنة -، ولأهل العلم تفسيرات لهذه المشيئة متعددة في خروج بعض أهل النار منها، بخلاف الجنة فمن دخلها فلا يخرج منها.
ثم إن القائلين بالفناء، غاية استدلالهم: إما بأحاديث وآثار غير صحيحة، وهذه لا يعوّل عليها في تقرير مسألة أو حكم شرعي، لاسيما الأحكام الاعتقادية التي هي من جملة اعتقاد المسلمين التي تتعلق باليوم الآخر والجزاء.
وإما بنصوص محتملة غير صريحة فهي من المتشابه المجمل. فترد إلى المحكم المبين وهي النصوص الواضحة.
ويحسن بعد مناقشة القائلين بفناء النار أن يُفرق بين قولهم هذا، وبين قول الجهمية القائلين بفناء الجنة والنار.
فمنشأ القولين مختلف: إذ منشأ قول الجهمية هو امتناع وجود مالايتناهى من الحوادث لا في الماضي ولا في المستقبل، وقد ناقشتهم في الفصل الثالث من هذا البحث.
يقول ابن أبي العز (115) رحمه الله: (وقال بفناء الجنة والنار الجهم بن صفوان إمام المعطلة، وليس له سلف قط، لا من الصحابة، ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا من أئمة المسلمين، ولا من أهل السنة، وأنكره عليه عامة أهل السنة، وكفرّوه به، وصاحوا به وبأتباعه من أقطار الأرض، وهذا قاله لأصله الفاسد الذي اعتقده وهو امتناع وجود ما لا يتناهى من الحوادث .. ) (116).
¥