ومن أوضح الأمثلة على ذلك أن كثيرًا ممن يسطرون الحواشي يفسدون مقصد المصنف من كلامه، بل وليت الأمر يقتصر على هذا بل يتكلمون في مواضيع لا شأن لها بالكتاب أصلا، وقد وقفت على أمثلة عديدة من هذا، سأذكر منها بعض الأمثلة:
1 - وقفت على بعض الكتب التي تشرح كتاب التوحيد، والتي طبعت ببعض الدور عندنا بمصر، ويبدو أن محققها كان قد انتهى لتوه من ختمة بالقراءات العشر الصغرى!!! لأنه وياللعجب كان يقتنص فرصة ذكر المصنف لأي آية، فيأتي إلى الحاشية ويحشوها بوجوه القراءات في تلك الآية، دون أن يكون لذلك أي معنى، أو تأثير في توجيه الدليل المُستَدَلِّ به، فأصبح القارئ بين كتاب أصله في علم التوحيد، وبيان ما يجب لله مما لا يجب، وبين حواشٍ في علم القراءات، لا علاقة لها البتة بالكتاب اللهم: إلا ملأ الحواشي، وتشتيت طالب العلم، وبعض المحققين قد يفعلون ذلك من باب الاستعراض العلمي، وبيان اطلاعهم على علوم شتى، ولكنهم في الحقيقة يكشفون عن عدم معرفة بما يفعلون أصلا، وعن تشوش الأهداف والرؤى لديهم.
2 - المثال الأعجب من هذا لمحقق حقق كتبًا بالمئات في بعض الدور البيروتية، والمحقق الفاضل أراد أن يعرفنا بمذهبه العقدي -وهو المذهب الأشعري- في ثنايا تحقيقه لكتاب فقهي، فكان يقتنص فرصة ذكر أي حديث في الصفات، ويعلق عليه بما يوافق ما ذهب إليه الأشاعرة، ولا زلت أذكر مثالا يضحكني، وهو عندما ذكر المصنف حديث يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر ... الحديث المخرج في صحيح البخاري، فلم يفوت الفرصة، وأتى بشرح الحافظ ابن حجر للحديث، والذي فيه أن الضحك بمعنى الرضا بدليل تعدي الفعل بحرف الجر إلى، فقلت ياسبحان الله!!! ما علاقة تعليقك هذا بإيراد المصنف للحديث، ولو أردت يا هذا أن تعرفنا بمذهبك العقدي اذهب وصنف مصنفًا يضم لجيوش أوراقك، أما أن تأتي إلى كتاب لم يصنف لأجل العقائد أصلا، وتحشر فيه الكلام حشرًا لبيان مذهبك، فهذا من تحريف مراد المصنف لا شك في ذلك.
3 - ومثال آخر يدمنه نفس المحقق وهو ذكره الدائم في افتتاح أي كتاب في أي علم كان؛ الخلاف في إعراب الاستعاذة والبسملة، ثم خروجه من الخلاف النحوي إلى الخلاف الفقهي، حتى وإن لم يذكر المصنف البسملة يقوم هو بكتابتها نيابة عنه!!!
4 - ومثال رابعٌ أيضًا وهو حشر تعليقات مختصة بأصول فقه الشافعية والأحناف، في كتاب يتناول أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وهو مختصر أصول الفقه لابن اللحام، فحواشيه توثق لك كل المذاهب إلا مذهب الإمام أحمد -برغم أن المحقق مشكور في إخراجه الكتاب، فليته اكتفى بذلك، كما قيل في تفسير الرازي الموسوم بمفاتيح الغيب: به كل شيء إلا التفسير!!!
والأمثلة أكثر من أن يحصرها مقالٌ أو حتى كتاب، والمقصود من وراء ضربها أن المحقق الدقيق لا يذكر حواشٍ إلا في أضيق نطاق، في محلها، وهذا من حكمة الرجل، فالحكمة هي وضع الشيء في موضعه، والدلالة عليه بأقصر طريق، لذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة: مثنة-أي: علامة- من فقه الرجل طول صلاته، وقصر خطبته، فكانت علامة حكمة الخطيب وفقهه قصر خطبته، واحتوائها على المعاني المرادة بأبسط طريق، وفي هذا إشارة إلى أن قصر الكلام الدال على المعنى المراد من علامات الفقه والحكمة، وقد أوتي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم فكان يختصر الكلام له اختصارًا، ويحوي المعاني الكثيرة في كلمات قصيرة.
وهذا أيضًا ردٌّ بالغٌ على من يقيمون رسائل الماجيستير والدكتوراة بالأوزان، وعدد الأسطر في الحواشي، وذكرني هذا بمشرفٍ من الدكاترة في الدراسات العليا -صارحني فيما بعد بأنه معتزلي، هداه الله تعالى- أعددت وقتها بحثًا عن أحكام المكان في الفقه -دراسة مقارنة- فكان تقييمه على أساس عدد أسطر الحواشي، والحمد لله أنها كانت ملآنة!!!
فأحيانًا يضطرك جهلة المشرفين -والله لقد رأيت دكاترة جهلة بحق، لا افتراء، وهذا موضوعٌ آخر- إلى إرهاق فكرك في وضع حواشٍ لا طائل تحتها إلا إرضائهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هذه كلمة في هذه المشاركة المباركة
يتبع إن شاء الله
ـ[العدوي]ــــــــ[22 - 11 - 04, 04:11 م]ـ
والأخرى: أكتبها استجابة لسؤال الدكتور/ موراني
دون الدخول في تفصيلات، هاهي الأمثلة، ثم سأطرح عليك سؤالا في آخر كلمتي إليك:
¥