وكان لقاءً حاراًّ، بدأنى الشيخ بالعناق، لأننى لا يمكن أن أبدأه بذلك هيبةً له، وكان معنا في هذا اللقاء الأخ الفاضل أبو الحارث على الحلبى حفظه الله، وجلسنا نحو ساعةٍ ونصف الساعة نسألُ، والشيخ يجيبُ، فلما تصرمت الجلسة، وخرجنا من الدار، إنتحيتُ بالشيخ جانباً، وشرحتُ له باختصارٍ ما كابدتهُ فى السفر إليه، ولم يخرجنى من بلدى إلاَّ طلبُ العلم، فلو أذن لى الشيخ أن أخدمه وأساعده لأتمكن من ملازمته، فشكرنى و اعتذر لى، نظراً لضيق وقته. فقلت له: أعطنى ساعة كل يوم أسألك فيها. فاعتذر
فقلت له: أعطنى ما يسمح به وقتك ولو كان قصيراً، فاعتذر!
فأحسست برغبة حارَّة ٍفى البكاء، وتمالكت نفسى بعناء بالغٍ، و أطرقتُ قليلاً ثم قلت للشيخ: قد علم الله أنه لم يكن لى مأربٌ قطُّ إلاَّ لقاؤكم و الإستفادةُ منكم، فإن كنتُ أخلصتُ نيتى فسيفتح الله لى، وانْ كانت الأخرى؛ فحسبى عقاباً عاجلاً أن ارجع إلى بلدى بخفى حنين!
وانا سأدعو الله أن يفتح قلبك لى.ولست أنسى هذا الموقف ما حييت.
ثم التقيت بالشيخ فى صلاة الغداة من اليوم التالى، فقبلتُ يده – وهذا دأبى معه – فقال لي: لعلَّ الله استجاب دعاءك؛ وكان فاتحة الخير. وكنت أكاد وقن أن الله سيستجيبُ لى، وأن الشيخ سيقبلنى عنده، لا سيما بعد أن قابلت الأستاذ أحمد عطية – وكان من معظمى الشيخ قبلُ -، فاستضافنى فى داره وقال لى: لما طبع كتابك ((فصل الخطاب بنقد المغنى عن الحفظ والكتاب)) اشتريت منه نسخة وقرأته فأعجبنى أنه على طريقة الشيخ، وكان الشيخ يقول: ليس لى تلاميذ – يعنى على طريقته فى التخريج والنقد – قال: فأرسلت هذا الكتاب الى الشيخ وقلت له: وجدنا لك تلميذا، وراجعتُ الشيخ بعد ثلاثة أيام فقال: نعم.
قلت: لمَّا قصَّ علىَّ الأستاذ أحمد عطية هذه الحكاية ضاعف من أملى أن يقبلنى الشيخ عنده.
ووالله! لقد عاينت من لطف الشيخ بى، وتواضعه معى شيئا عظيما، حتى أنه قال لى يوماً: صحَّ لك ما لم يصحُّ لغيرك، فحمدت الله عز وجل على جسيم منته، وبالغ فضله ونعمته.
فمن ذلك أننى كلما التقيتُ به قبلت يده، فكان ينزعها بشدَّة، ويأبى علىَّ، فلما أكثر قلتُ له: قد تلقينا منكم فى بعض أبحاثكم فى " الصحيحة " أن تقبيل يد العالم جائز.
فقال لى: هل رأيت بعينيك عالماً قطُّ؟
قلت: نعم، أرى الآن.
فقال: إنما أنا " طويلبُ علمٍ "، إنما مثلى ومثلكم كقول القائل:
إن البُغَاثَ بِأَرْضنَا يَسْتَنْسِرُ!
وبدأت جلساتى مع الشيخ بعد كل صلاة غداةٍ فى سيارته، ولمدة ساعة، ثم زادت المدة حتى وصلت الى ثلاث ساعات.
واستمر هذا الأمر، حتى جاء يومٌ ولم يُصلِّ الشيخ معنا صلاة الغداة، فحزنت لذلك لضياع هذا اليوم علىَّ بلا استفادة، واستشرت من أثق برأيه من إخوانى: هل أذهب الى الشيخ فى بيته أم لا؟
فكان إجماعهم أن لا أذهب، لأنك لا تعلم ما ينتظرك هناك، ولا يذهب أحد الى الشيخ فى بيته إلَّا بموعدٍ سابقٍ، فلربما ردَّك، فلا يكون بك لائقًا، لا سيما بعد المكانة التى صارت لك عند الشيخ.
وتهيبتُ الذهاب، ولكن قوى من عزمى أمران:
الأول: أن رفيقى آنذاك والذى كان يصحبنى بسيارته الأخ الفاضل الباذل أبو حمزة القيسى جزاه الله خيراً – قد أيدنى فى الذهاب.
الثانى: أننى استحضرت قصةً لابن حبان مع شيخه ابن خزيمة ذكرها ياقوتُ بسنده إلى أبى حامد أحمد بن محمد بن سعيد النيسابورى قال: كنا مع أبى بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة فى بعض الطريق من نيسابور، وكان معنا أبو حاتم البُستى، وكان يسألُه ويؤذيه، فقال له محمد بن إسحاق بن خزيمة: يا بارد! تنحَّ عنى ولا تؤذينى! أو كلمة نحوها، فكتب أبو حاتم مقالته، فقيل له: تكتب هذا؟ قال: أكتب كل شىء يقوله الشيخ)) ا هـ.
فقلتُ فى نفسى: ومالى لا أفعل مثلما فعل ابن حبان؟ وحتى لو قال لى الشيخ مقالة ابن خزيمة لعددتها من فوائد ذلك اليوم.
وانطلقنا اليه، وكان من أفضل أيامى التى أمضيتُها فى هذه الرحلة، فقد استقبلنى الشيخ استقبالا كريما، وأمضيت معه أكثر من ساعتين، وكان
يخدمُنا بنفسه، ويأتينا بالطعام يضعه أمامنا، فكلما هممت أن أساعده أبى علىَّ، ويشيُر أن أجلس، ويقول: ((الإمتثالُ هو الأدبُ بل خيرٌ من الأدبِ))
¥