وقصة الرافعي في مواجهة العقاد لها فضاء آخر .. وسياق مغاير، يقول الرافعي .. وهو يضع طه حسين فوق ميزانه النقدي والعلمي، وإنه لولا ضعف خيال الدكتور طه، وبعده من الصناعة الفنية في الأدب، واستسلامه لتقليد الزنادقة، وبعض المستشرقين الذين لا يوثق برأيهم ولا بفهمهم في الآداب العربية، ثم لولا هذه العصبية الممقوتة التي نشأت فيه من هاتين الصفتين إلى صفات أخرى يعرفها من نفسه حق المعرفة لكان قريباً من الصحة فيما يرى، ولتدبر الأمور بأسبابها القريبة منها واستعان عليها بما يصلحها، ولتوقى بذلك جناية التهجم التي هي في أكثر أحوالها علم الجهلاء، وقوة الضعف، وكياسة الحمقى وعقل الممرورين".
ويمكن أن نتهم الرافعي بالمبالغة في اتهام د. طه حسين وإلصاق كل هذه المثالب به .. ولكني أرى أنه أصاب كبد الحقيقة حين وصف صاحب كتاب "في الشعر الجاهلي" بأنه مستسلم لتقليد الزنادقة، وبعض المستشرقين الذين لا يوثق برأيهم ولا بفهمهم في الآداب العربية.
ولنتأمل دقة الرافعي في التفريق بين الزنادقة .. وبعض المستشرقين حيث لم ينكر الدور الإيجابي الذي قام به المستشرقون في خدمة التراث العربي والإسلامي تحقيقاً .. وطباعة، وتمحيصاً وتدقيقاً وفهرسة .. وهي جهود بارزة لا تنكر .. وتحتاج إلى قليل من تصحيح المفاهيم، وإضاءة مناطق الشبهات، وتحرير بعض الآراء التي تشوهها الترجمات الحرفية التي تحرف المعنى وتقلب الحقائق.
يقول الرافعي: إن طه حسين استسلم للزنادقة وبعض المستشرقين وهذا كلام صائب ودقيق لأنه حدد هذا "البعض" وهم الذين "لا يوثق برأيهم، ولا بفهمهم في الآداب العربية".
ومن المستشرقين المنصفين للحضارة العربية والفكر الإسلامي "توماس كارلايل" صاحب كتاب "محمد المثل الأعلى في كل شيء" و"الكونت هنري دي كاستري" صاحب كتاب "الإسلام خواطر وسوانح" و"المستشرق" فرانز روزنثال"، والمؤرخ الإنجليزى "المستر سميث" في كتابه "محمد والدين المحمدي"، وكذلك الفيلسوف الإنجليزي "برنارد شو" الذي يقول ويؤكد أنه "في الوقت الحاضر كثيرون من أبناء أوروبا قد دخلوا في دين "محمد" أي الإسلام، حتى يمكن أن يقال: إن تحول أوروبا إلى الإسلام قد بدأ، وأحسن ما يقال: إن القرن الحادي والعشرين لن يمضي حتى تكون أوروبا قد اتخذته ديناً لها، وعهدت إليه في حل مشاكلها".
أما المستشرقون الذين لا يوثق برأيهم ولا يفهمهم في الآداب العربية ومعهم الزنادقة الذين قلدهم طه حسين - كما يقول الرافعي" .. وكما تشهد بذلك الوثائق العلمية ووقائع التاريخ، وكما انتهت إلى ذلك اللجنة التي فحصت كتاب "في الشعر الجاهلي" وكذلك المحكمة التي أصدرت حكمها بعد اعتذار د. طه حسين وإقراره بأنه مسلم ولم يتعمد الإساءة إلى الإسلام.
وقد انتهى الأمر إلى مصادرة الكتاب وإحالة د. طه حسين إلى النيابة، وحققت معه وانتهت إلى أن هذا البحث ليس من عمل الدكتور بل سبقه به المستشرقون ومنهم "مرجليوث" المستشرق الإنجليزي، وانتهت هذه القضية بقضها وقضيضها سنة 1926م - كما يقول الأستاذ حسنين حسن مخلوف.
وحفظت النيابة الأوراق لعدم كفاية الأدلة ولثبوت حسن النية فيما صدر من الدكتور طه حسين.
ولسنا هنا بصدد معارضة الحكم، ولا التنقيب عن حقيقة معتقد طه حسين .. فهذا أمر لا يعلمه إلا الله وحده.
ومن الحقائق التي تؤكد تقليد طه حسين واتباعه لما قاله المستشرقون .. ما ورد من آثار لهم في دراسة الأدب العربي وتحقيق دواوين الشعر الجاهلي؟ وحين تصدق هذه الحقيقة .. فإنها أصدق تهمة توجه إلى "عميد الأدب العربي" الذي رفع لواء التجديد - وهو في الحقيقة يلبس مسوح التقليد، ويمكن أن نقول يرتدي حلة السرقة ظناً منه بأن الحياة الثقافية لن تكشف هذا الصنيع، أو أنه يضحي بسمعته العلمية في سبيل إرضاء أساتذته من بعض المستشرقين الذين وصفهم الرافعي بأنهم "لا يوثق برأيهم ولا يفهمهم في الآداب العربية" وكل هذه الاحتمالات تصب في تيار مضاد لما كان يتوهمه طه حسين، ولكنه أغرى الكثيرين من الباحثين بارتياد هذه الطرق الشائكة التي تجدف ضد التيار .. حتى لو كان هذا التجديف ضد الثوابت، وضد القيم والأعراف والتقاليد الأدبية والحقائق التاريخية، والثوابت الدينية".
¥