والخلاف في هذه المسألة مبني على الخلاف في الإعراب، فالذي ذهب إليه البصريون أن الإعراب أصل في الأسماء فرع في الأفعال، ورتبوا على مقالتهم أنه مبني على الأصل ولا مقتضي لإعرابه، والذي ذهب إليه الكوفيون أن الإعراب أصل في الأسماء وفي الأفعال، ورتبوا على مقالتهم أنه معرب إذ لا مقتضي لبنائه، هذا وفي المسألة كلام أطول لا تسعه هذه العُجالة (145).
الموافقة الثانية:
قال المصنف رحمه الله تعالى عند كلامه عن المضارع في باب الأفعال:
«فالنواصب عشرة وهي: أن ولن وإذن وكي ولام كي ولام الجحود وحتى، والجواب بالفاء والواوِ وأو».
قال أبو بكر عفا الله عنه:
أجمل المصنف رحمه الله تعالى القول في هذه النواصب، فلم يبين فيها شيئا، والحاصل أن منها ما ينصب بنفسه، ومنها ما ينصب بإضمارٍ بعده، ومنها ما ينصب بالخلاف ـ أي مخالفة ما قبلها لما بعدها ـ، وصنيعه هذا متردد بين أمرين، إما أنه يختار أنها تنصب بنفسها، وإما أنه نسب النصب إليها اختصارا وتقريبا لأذهان الطلبة المبتدئين، ورجح الثاني بعضُ شراح مقدمته، ولا يأباه الذوق، والأول قريب فلا بأس أن نبني عليه، فنذكر مذاهب أهل العلم في بعض هذه العشرة بطريق الاختصار، فأقول وبالله التوفيق:
أما إذن:
فمذهب الجمهور أنها حرف، وذهب بعض الكوفيين إلى أنها اسم وأصلها ((إذا))، ثم اختلف القائلون بحرفيتها، فقال الأكثرون إنها بسيطة، وذهب الخليل في أحد أقواله إلى أنها مركبة من ((إذ)) و ((أن))، واختلف القائلون بأنها بسيطة، فذهب الأكثرون إلى أنها ناصبة بنفسها، وذهب الخليل فيما روى عنه أبو عبيدة إلى أنها ليست ناصبة بنفسها، وأن ((أن)) بعدها مقدرة، وإليه ذهب الزجاج والفارسي، قال المرادي: «والصحيح إنها ناصبة بنفسها» اهـ (146).
وأما كي:
فمذهب سيبويه أنها تنصب بنفسها، وعليه عامة أهل البصرة والمتأخرون، وذهب الخليل والأخفش إلى أن ((أن)) مضمرة بعدها والله تعالى أعلم (147).
وأما لامها:
وهي المسماة لام التعليل، فمذهب أهل البصرة أنها تنصب بأن مضمرة بعدها، وذهب أهل الكوفة إلى أنها ناصبة للفعل بنفسها، وذهب السيرافي وابن كيسان إلى أنها تنصب بإضمار ((أن)) أو ((كي)) المصدرية، وذهب ثعلب إلى أن الفعل بعدها انتصب بها لقيامها مقام ((أن)) والله تعالى أعلم (148).
وأما لام الجحود:
فذهب أهل البصرة إلى أن الناصب في لام الجحود هو ((أن)) المضمرة بعدها، وذهب أهل الكوفة إلى أن الناصب هو نفس اللام، وذهب ثعلب إلى أن اللام هي الناصبة لقيامها مقام ((أن)) والله تعالى أعلم (149).
وأما حتى:
فذهب البصريون إلى أنها تنصب بأن مضمرة بعدها، وخالفهم أهل الكوفة فقال الفراء والكسائي وعامتهم إنها تنصب بنفسها والله تعالى أعلم (150).
وأما الفاء الجوابية:
فهي الفاء الناصبة للفعل في جواب الأمر والنهي والدعاء والاستفهام والتحضيض والعرض والتمني والنفي والترجي، ومذهب البصريين أن هذه الفاء هي العاطفة، والفعل بعدها منصوب بأن مضمرة، وخالفهم الكوفيون على فريقين، فذهب بعضهم إلى أنها ناصبة للفعل بنفسها، وذهب آخرون إلى أنها نصبت بالخلاف، لأنه لما لم يصحَّ عطف ما بعدها على ما قبلها لمخالفته له في المعنى نُصِب والله تعالى أعلم (151).
وأما الواو الجوابية:
فيقال فيها ما قلناه في الفاء إجمالا وتفصيلا والله تعالى أعلم (152).
وأما أو الجوابية:
فالبصريون ينصبون بأن مضمرة بعدها، وخالفهم الكوفيون فمنهم من قال تنصب بنفسها، وهو مذهب الكسائي وأصحابه وأبي عمر الجرمي، ومنهم من قال تنصب بالخلاف ـ أي مخالفة ما قبلها لما بعدها ـ وهو مذهب الفراء والله تعالى أعلم (153).
هذا إيجاز ما تقدم، فإن أجرينا مقالته على الظاهر في أنها ـ أي النواصب الستة ـ تنصب بنفسها، فيكون اختار مقالة الكوفيين من حيثُ الجملة، وسار على سيرهم ـ كما تقدم نقل مذهبهم في لام كي ولام الجحود وحتى، والفاء والواو وأو الجوابيات ـ، وإلا بأن قلنا إنه أراد الاختصار وتقريب المسألة للمبتدئين فلا كلام معه من هذا الوجه، إلا أنا نخالفه فيه والله تعالى أعلم.
الموافقة الثالثة:
لما قسم المؤلف رحمه الله تعالى الكلام إلى اسم وفعل وحرف جاء لمعنى عَرَّفَ كل نوع بخاصته فقال:
¥