وإظهار الشفقة عليه في ثنايا نصحك له، أذكر أن أحدهم كان كلما خاطبني في رسائله قال لي: (أخي الحبيب فلان)، فلما بدا له أن ينصحني في مسألة ما قال: (الأخ فلان)، فتعجبت لذلك وقلت له: عجبا لك!! ما خاطبتني قط إلا وتقول: أخي الحبيب، فلما كان أحوج ما يكون الكلام لذلك عند النصيحة جردت (أخ) من ياء المتكلم التي تتضمن معنى التلطف والقرب وذكرته بقول إبراهيم عليه السلام لأبيه الكافر: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} (مريم:42) وقول لقمان لابنه وهو ينصحه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (لقمان:17)، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه الكافر أبي طالب: (يا عماه). فتأمل ـ رحمك الله ـ.
فمحبة العالم أو الداعية ليست للونه أو جنسه أو جماعته، إنما لما يحمله من بقايا إرث النبوة وهو العلم الشرعي.
وقد تقول: أنا لا أحبه؛ لأنه يفتي بالطامات ومتساهل!!.
فأقول لك: فأخبرني ـ وفقك الله ـ هل ما يفتي به باجتهاده أم بالتشهي؟!!.
فإن قلت: باجتهاده.
فأقول لك ما قاله شيخ الإسلام: فأما الصديقون والشهداء والصالحون، فليسوا بمعصومين، وهذا في الذنوب المحققة، وأما ما اجتهدوا فيه: فتارة يُصيبون وتارة يخطئون. فإذا اجتهدوا وأصابوا فلهم أجران. وإذا اجتهدوا وأخطئوا فلهم أجر على اجتهادهم، وخطؤهم مغفور لهم. وأهل الضلال يجعلون الخطأ والإثم متلازمين، فتارة يغلون فيهم ويقولون: إنهم معصومون، وتارة يجفون عنهم ويقولون: إنهم باغون بالخطأ. وأهل العلم والإيمان: لا يعصمون ولا يؤثمون).
والمرء يعجب من صغيرة غيره ... أي امرئ إلا وفيه مقال
لسنا نرى من ليس فيه غميزة ... أي الرجال القائل الفعّال
وإن قلت: بل يفتي بالتشهي!!.
فأقول لك: وأين الدليل على ذلك ـ يرحمك الله ـ؟!.
فإن قلت: مخالفته في فتواه النصوص الصريحة والصحيحة وجمهور أهل العلم؟!.
قلت لك: هل يلزم كل من تلبس بذلك أن تكون فتواه بالتشهي؟!.
يا أيها الحبيب إن العلم واسع، وأسباب اختلاف العلماء قامت منذ الصدر الأول حتى يومنا هذا، ولا يوجد أحد من أهل العلم ينكر وجود الخلاف في الفروع الفقهية، فلا تضيق واسعا!! وعليك بقراءة كتاب (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) و (مقدمة في أصول التفسير) لابن تيمية، حتى تقف على أسباب وحقيقة الخلاف بين أهل العلم حتى لا تنكر شيئا لا إنكار فيه، أو تعطيه أكبر من حجمه.
أما إن قلت: لا أحبه؛ لأنه متكبر.
فأقول لك: هذا إذا يدور في فلك الإيمان؛ لأن الحب يكون لطاعة، والبغض لمعصية، وإن ثبت أن فلانا من الدعاة من المتكبرين، فحق لك بغضه في ذلك، ولكن عليك الاحتراز من الخروج من البغض في الله إلى البغض لحظ النفس.
واعلم ـ وفقك الله للخير ـ أن بغضك له بسبب شرعي لا يسوغ لك التشنيع به والاسترسال في ذمه وتعنيفه في النصيحة، ولذلك إن لم تكن ممن يملك زمام رابطة الجأش، فأنصحك بعدم نصحه حتى لا تنحرف النصيحة عن وجهتها الصحيحة، فتتحامل فيها على المنصوح.
3 ـ (أن تقدم بين يديك إحسان الظن):
فإحسان الظن بالآخر والذهاب في ذلك إلى أبعد الحدود يجب أن يكون مطلقا لجميع المسلمين، وأهل العلم والدعوة من باب أولى. كما قال الحق سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (الحجرات:12).
وروى أبو هريرة مرفوعا: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث) رواه الشيخان.
وروى المحاملي في "أماليه" عن عمر بن الخطاب قال: (لا تظنن بكلمة خرجت من في امرئ مسلم سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا).
وروى البيهقي في "الشعب" عن محمد بن سيرين قال: (إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرا فإن لم تجد له عذرا فقل له عذر).
وعنه أيضا في "الشعب" عن جعفر بن محمد قال: (إذا بلغك عن أخيك الشيء تنكره فالتمس له عذرا واحدا إلى سبعين عذرا، فإن أصبته وإلا قل لعل له عذرا لا أعرفه).
¥