وفي هذه الأبواب مباحث تشتبه فيها المسائل، وتتعارض الدلائل، وتنتفج الشبهات، وتتراءى في معارض البينات، حتى يعز تحرير القول فيها، والفصل بين قوادمها وخوافيها، إلا على مَن كان مثل المصنف في نور بصيرته، وغزارة مادته، وقوة عارضته، وفصاحة عبارته.
ومِن أغمض هذه المسائل ما كان سنة أو مستحبًّا في نفسه وبدعة لوصف وهيئة عرضت له، كالتزام المصلين المكث بعد الصلاة لأذكار وأدعية مأثورة يؤدونها بالاجتماع والاشتراك،
حتى صارت شعارًا من شعائر الدين، ينكر الناس على تاركيها دون فاعليها، وقد أطال المصنف في إثبات كونها بدعة وأورد جميع الشبه التي دعمت بها، وكر عليها بالنقض فهدمها كلها.
وما لي لا أذكر لعلماء الشرع الأعلام، ولأهل السياسة من علماء الحقوق والأمراء والحكام، أهم ما شرحه لهم هذا الكتاب من أصول الإسلام، وهو بحث المصالح المرسلة والاستحسان، من أصول مذهبي مالك وأبي حنيفة النعمان، وبهما يظهر اتساع الشرع لمصالح الناس في كل زمان ومكان؟
بين المصنف وجه اشتباه ما سموه البدع المستحسنة، بالاستحسان الفقهي والمصالح المرسلة، ثُم كَشَفَ كل شبهة.
وأزال كل غمّة.
فبين أن البدع ليست من هذين الأصلين في وِرد ولا صَدْر، ولا تتفق معهما في علة ولا غرض، فإن البدعة كيفما كانت صفتها استدراك على الشرع وافتيات عليه،
وأما مسائل المصالح المرسلة والاستحسان فهي موافقة لحكمته، وجارية على غير المعين من عموم بيناته وأدلته.
وقد أورد المصنف ما قيل في تعريف ذينك الأصلين ووضح ذلك بالشواهد والأمثلة، فلو أنك قرأت جميع ما تتداوله المدارس الإسلامية من كتب أصول الفقه وفروعه، لانثنيت وأنت لا تعرف حقيقة المصالح المرسلة والاستحسان، كما تعرفها من هذا البحث الذي أوردها المصنف فيه تابعة لبيان حقيقة البدعة لا مقصودة بالذات.
مَن أراد أن يعرف فضل الإسلام وسماحته، وسهولته ومرونته، فليأخذه من ينبوعه، وليستعن على فهمه بهؤلاء الحكماء الذين يشددون في إنكار البدع، ويدعون المسلمين إلى السنة التي كان عليها السلف، ويرون ضلال من يزيد في العبادات عليهم، أشد وأضر من ضلال من ينقص في غير أصول الفرائض عنهم، ويوسعون على الناس في أمور العادات، بناء على أصل الإباحة في الأشياء، وإن ظن كثير من الجاهلين، أن هذا هو عين الجمود في الدين، وجعله دينًا خاصًّا بأهل البداوة، لا يطيق احتماله أهل المدنية والحضارة، والأمر بالضد، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
كان هذا الكتاب كنزًا مخفيًّا لا توجد منه في هذه الأقطار إلا نسخة بخط مغربي في كتب الشيخ محمد محمود الشنقيطي المحفوظة في دار الكتب الخديوية، فاستخرجه مجلس إدارتها في العام الماضي واقترح طبعه، فوافق ذلك رغبة صاحب السعادة أحمد حشمت باشا ناظر المعارف لذلك العهد،
وعهد إليّ بطبعه بشروط بيّنها في الكتاب الذي كتبه إليّ بذلك، وأرسلت إلي دار الكتب الجزء الأول منه منسوخًا نسخًا جديدًا على أوراق متفرّقة لتجمع حروف الطبع عنها.
فتصفحت بعضها فألفيت فيها غلطًا وتحريفًا كثيرًا حتى في الأحاديث، فكتبت في حاشية ما جمعت حروفه منها ليكون نموذجًا للطبع تصحيحًا لما ظهر لي غلطه، وتخريجًا لحديث: (بدأ الإسلام غريباً) الذي بنى عليه المصنف مقدمة الكتاب وجعله الأصل في وجه الحاجة إليه.
وفسرت فيها بعض الكلم الغامض وأطلعتُ على ذلك صديقي الأستاذ الفاضل السيد محمد الببلاوي وكيل دار الكتب الخديوية الذي يُرجَع إليه في تصحيح الكتب التي تطبع على نفقتها،
وقلت له: يعز علي أن يطبع هذا الكتاب النفيس من غير أن يصحح أصله ويعلق عليه شيء. وأنا أتبرع بما أراه ضروريًّا من ذلك، ومطبعتي تتبرع بتصحيح الطبع أيضًا. ولو كنت في سعة من وقتي لخرجت أحاديثه كلها، وبذلت العناية بمراجعة كل نُقُولِه من مظانها، وبغير ذلك من تصحيحه. فقال: نحن نرى من التوفيق أن يطبع هذا الكتاب تحت نظرك وإشرافك، ونرى أنك أجدر وأحق بتصحيحه …
ما تيسر لي قراءة شيء من الكتاب في وقت فراغ؛ بل كانت المطبعة تعرض علي الأوراق عند إرادة الاشتغال بطبعها، فكنت أرى الغلط فيه أنواعًا:
¥