تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

أما الأساليب التي تعتمدها تلك الدعوات في عملتي (الاستئصال) و (الاستنبات) فهي قد تتخذ لها صوراً شتى يمليها (مصدر) الدعوة حيناً، ويقتضيها (الظرف العام) آخر، ويستلزمها (الموقف الخاص) ثالثاً، غير أن ما ينتظمها جميعها هو خيط (التغيير)، تغيير ما بالنفس استصلاحاً لحالها واستثماراً لبذرة (الاستواء) في خويصتها، وكذلك، وبذات الوقت، في تواصلها بأنفس الآخرين. وهي، أي الدعوات الإصلاحية، تلحم، بفضل ما تحققه من (تغيير) في الذات (الخاصة) وفي الذات (العامة) بين الوجدان الفردي والوجدان الجماعي، فتخلق بذلك الأجواء العقلية والنفسية السليمة لاستعادة الأمة (روحها) واسترداد (ذاكرتها) ممثلتين في قيمتها العقلية، ومثلها الروحية، وتجاربها التاريخية، وتلك أولى خطواتها على طريق الوعي اللاحب الذي لا عوج فيه ولا أمت ([1]).

وفق هذا وذاك، ومن منطلق معرفتنا بسمتي (الإصلاح) و (التغيير) اللتين وسمتا دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية نستطيع القول بأن قيمة هذه الدعوة تحددت بما كان لها من أثر بعيد الغور في بيئتها، عصرها وبعد عصرها إلى يوم الناس هذا وإلى ما شاء الله تعالى، وذلك بما استأصلت من (إكباب) في مفهوم العقيدة، والعبادة، والمعاملة عند الناس، واستنبتت من (استواء) فيها جميعها.

وليس من شأننا، هنا، أن نفيض في التأريخ لهذه الدعوة ([2])، كما أنه ليس من شأننا، هنا، أن نبسط القول في مكوناتها وأدبياتها.

غير أنه لا بأس، حتى نتمثل طبيعة (المناخ) التصوري الذي انطلقت بين أحنائه الدعوة وتشكلت المواقف منها، أن نذكر بأبرز مظهر له وهو الذي كان يتمثل فيما أصاب عقيدة التوحيد من اختلال واهتراء أفرغاها من مضمونها الهادي الباني، فانعكس أثر ذلك على (حملتها) في حالة (الإكباب) التي تلبستهم في مجموع ما يأتون به من أفعال ويذرون من أمور، وكذلك في حالة (الشلل) الذي أصاب منهم الفكر والوجدان معاً ففقدوا، بسببه، القدرة على الإبداع والإبتكار في أي مجال من مجالات الحياة مادية وغير مادية ليكتفوا بـ (الإجترار) و (التكرار) في كل باب طرقوه وفي كل مجال ولجوه. وكان من آثار اختلال العقيدة عندهم أن أخلدوا إلى الأرض، واتبعوا أهواءهم، واستسلموا عن طواعية، وفي خنوع مزر، لسلطان (الخوف) من (المجهول)، ومن (الآخر) مما أتاح للشعوذة أن تبيض وتفرخ، ويمد متزعموها أياديهم في حياة أتباعهم من عامة الناس وخاصتهم، يصرفون أمورها وفق أهوائهم ومآربهم، مكرسين بذلك ألواناً من الحوادث والبدع، والضلالات والمنكرات في العقائد، والعبادات، والمعاملات ما فتئت تنأى بأصحابها وبمجتمعاتهم عن روح الإسلام شيئاً فشيئاً حتى غار، أو كاد، ماؤه، ونضب، أو كاد، معينه!

ففي نجد (كان الشرك إذ ذاك قد فشى ( ... ) وكثر الإعتقاد في الأشجار والأحجار والقبور، والبناء عليها، والتبرك بها، والنذر لها، والاستعادة بالجن والنذر لهم، ووضع الطعام وجعله لهم في زوايا البيوت لشفاء مرضاهم ونفعهم والحلف بغير الله وغير ذلك من الشرك الأكبر والأصغر) ([3]).

ولم تشذ عن مثل هذا (المناخ) غير نجد من بلاد (المسلمين)، ونمثل لها ببلاد التكرور في غرب افريقيا، حيث وجد فيها الشيخ ابن فودي (ت 1817 م) (من أنواع الكفر والفسوق والعصيان أموراً فظيعة وأحوالاً شنيعة طبقت هذه البلاد وملأتها حتى لا يكاد يوجد في هذه البلاد من صح إيمانه وتعبد إلا النادر القليل، ولا يوجد في غالبهم من يعرف التوحيد، ويحسن الوضوء والصلاة والزكاة والصيام وسائر العبادات، فمنهم كفار يعبدون الأشجار والأحجار والجن ( ... ) ومنهم قوم يقرون بالكلمة ويصلون ويصومون ويزكون من غير استكمال شروط، بل يأتون ذلك كله بالرسم والعلامة مع أنهم يخلطون هذه الأعمال بأعمال الكفر الذي ورثوه من آبائهم وأجدادهم ( ... ) ومنهم قوم يقرون بالتوحيد، ويصلون ويزكون من غير استكمال شروط كما مر مع أنهم مقيمون على عوائد رديئة وبدع شيطانية، ومنهم منهمكون في المعاصي الجاهلية متأنسين بها، جارين فيها مجرى المباحات حتى كأنها لم يرد فيها نهي، وهي خصال كثيرة أقاموا عليها، وهؤلاء أكثر عامة الفلانيين وبعض مسلمي السودانيين) ([4]).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير