1 - تولي عرش المغرب، أثناء وصول الدعوة، ملكين عرفا بنزعتهما السلفية، أولهما الملك سيدي محمد بن عبد الله (ت 1204 هـ) وثانيهما ولده السلطان المولى سليمان (ت 1238 هـ). فأما عن هذه النزعة السلفية عند الأول فيصورها لنا صاحب الإستقصا في حديثه عن مآثر هذا السلطان وسيرته حيث قال عنه (وكان السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله ينهى عن قراءة كتب التوحيد المؤسسة على القواعد الكلامية المحررة على مذهب الأشعرية، وكان يحض الناس على مذهب السلف من الإكتفاء بالإعتقاد المأخوذ من ظاهر الكتاب والسنة بلا تأويل) ([11]).
وكان مما يتري عنده هذه النزعة عنايته البالغة بالحديث، وقد ذكر الناصري في (الإستقصا) كذلك أسماء العلماء (الذين كانوا يسردون له كتب الحديث ويخوضون في معانيها)، كما ذكر أنه (جلب من بلاد المشرق كتباً نفيسة من كتب الحديث لم تكن بالمغرب مثل مسند الإمام أحمد ومسند أبي حنيفة وغيرهما)، وألف في الحديث كتباً منها، كتاب (مساند الأئمة الأربعة) ([12]). وأما عن النزعة المذكورة عند المولى سليمان فقد كان ورثها، فيما يبدو، عن والده، ورسخها لديه اهتمامه بالأصلين، ينتقي لتلاوة القرآن (الأساتيذ ومشايخ القراء ( ... ) ويجمع أنجب العلماء لسرد الحديث الشريف وتفهمه والمذاكرة فيه على مر الليالي والأيام ( ... ) ويشاركهم بغزارة علمه وحسن تفهمه) ([13]).
وقد كشفت عن هذه النزعة عنده، وفي وضوح وجلاء، رسالته التي وجهها إلى الأمة يحذرها من الخروج عن السنة والتغالي في البدعة.
وفيها وفي صاحبها يقول أحد شعراء العصر:
نهج الهداية واضحاً للمقتدي
نصر الشريعة ناصحاً حتى غدا
لانت لرقتها قساوة جلمد
وحبا الأنام بخطبة غراء قد
ما مات من سنن الشيوخ المجد
يا حسنها من خطبة أحيا بها
ينسي فحول العلم كل مجلد
نصح الورى نصحاً بليغاً شرحه
2 - استقلال الكيان السياسي للمغرب عن الباب العالي كان يتيح له من اتخاذ المواقف والقرارات مالم يكن متاحاً لغيره من الدول الإسلامية، بما فيها دول الجوار، الدائرة في فلك السلطة العثمانية التي كانت، كما هو معروف، تناصب الدعوة والقائمين عليه العداء، وهو ما يفسر الموقف المناهض للدعوة من قبل بعض العلماء في بعض تلك الأقطار مثل موقف مفتي تونس عمر المحجوب.
وإذا كان لنا أن نرى في استقلال المغرب عن سلطة آل عثمان عاملاً سياسياً خول ولاة الأمر فيه حق الإفصاح عن تجاوبهم مع مبادىء الدعوة ومساندتهم للقائمين على نصرتها بالجزيرة فإن البعض قد يرى في هذا وذاك غاية سياسية تتمثل في تحالف ملوك المغرب وأمراء آل سعود في الجزيرة لمواجهة الخلافة العثمانية.
ونضيف إلى هذين العاملين اللذين كانا لهما أثر في فسح الطريق للدعوة في المغرب عاملين آخرين كان لهما بدورهما ما يماثل ذلك الأثر أو يعمق مجراه. وهذان العاملان هما:
1 - غناء التراث المغربي من رصيد الخطاب السني السلفي. ونمثل لهذا بما ألفه علماء الأندلس والمغرب في محاربة البدع والحوادث والنهي عنها ونصرة السنة ومذهب السلف والذب عنهما، ومن ذلك (كتاب البدع والنهي عنها) لابن وضاح القرطبي (ت 287هـ) و (كتاب الحوادث والبدع) لأبي بكر الطرطوشي (ت 520 هـ) وكتاب (الإعتصام) لأبي إسحاق الشاطبي (ت 790 هـ). وهذا الكتاب بالذات ذو شأن بالغ الأهمية فيما كشف عنه من الآثار العميقة للبدع في تردي الأمة وفيما أوضحه من الآثار البعيدة لمذهب السنة في انبعاثها. ومن هنا اعتبر الشيخ رشيد رضا كتاب الإعتصام دعوة (لإحياء السنة وإصلاح شؤون الأخلاق والإجتماع) واعتبر الشاطبي بكتابه هذا وكتابه الثاني “ الموافقات ” (من أعظم المجددين في الإسلام) ([14]).
ومن ذلك الرصيد آثار أبي الحسن علي بن عبد الحق الزرويلي المعروف بأبي الحسن الصغير (ت 719 هـ)، وكان في المغرب مثل الشيخ ابن تيمية في المشرق. ومنه أيضاً آثار أبي عبد الله محمد بن أحمد المسناوي الدلائي من أعلام العلماء في القرن الحادي عشر والثاني، وأهمها كتابه (جهد المقل القاصر) انتصر فيه لمذهب السلف ولشيخ الإسلام ابن تيمية.
¥