مطلع الأربعينيات من هذا القرن شهد ظروفا عجيبة يا أحمد، كنت وقتها طالبا في معهد المعلمين وكانتمصر تموج بمختلف التيارات والمذاهب والأحزاب، وكنت وقتها مزورا عن جميعها مائلا بقلبي إلى هذا الكنز وأهله.
قالها الشيخ وأشار إلى يساره،فالتفت الفتى بلهفة لترد الكتب بصره ثانية فيعود للشيخ قائلا:
-أي كنز؟ إنها كتب أيضا؟
ابتسم الشيخ وقال:
-ليست مجرد كتب إنها أعداد مجلات ذلكم العصر البائد، إنها الرسالة، والبلاغ، والمقتطف،والمنار، هل تسمع عنها؟
أجاب الفتى بحيرة:
-لا لم أسمع عنها من قبل.
سرح الشيخ ببصره ثانية وقال:
-أما أنا فقد كانت هذه المجلات هي راحتي وملاذي، كنت معجبا بالعقول التي فيها، وأمتع شيء في القراءة يا ولدي أنها تنشيء علاقات حميمية بين عقلك وعقل الكاتب الذي تقرأ له حتى لتحس أنه يسكن بين جنبيك ويملك عليك جوانحك، وليس هذا لكل الكتاب ولا لكل القراء ولكنه فتح وتآلف يأذن به الله فإذا القلان عقل واحد لكنه مشقوق نصفين.
ثم أردف الشيخ قائلا:
-لم تكن بي طاقة وقتها للتوسع في شراء الكتب فكنت أشتري ما يلزمني وأضطر لشراءه فحسب، فعلى الرغم من القروش القليلة التي كانت تباع بها الكتب وقتها إلا أن الحالة الاقتصادية الطاحنة كانت تؤثر على سوق الكتب.
ولم يكن قد ظهر وقتها ذلكم الجيل الذي يسمونه بجيل الصحوة، إنه جيل يأكل الكتب شراء فقط لتأكلها الأتربة والهوام والرطوبة على الأرفف، فينتفع البائع وتخسر العقول والجيوب.
ثم انتمى زوج خالتك بقلبه وجوارحه إلى مشروع رجل عظيم لم يوفه التاريخ حقه إنه الشيخ الأجل محمد حامد الفقي.
وكانت كتبه ومطبوعات مطبعة السنة المحمدية التي كانت توفر لنا بثمن بخس دراهم معدودة هي النواة الأولى لهذه المكتبة التي تراها أمامك، والتي إن تصفحتها فستكحل عينك برؤية اسم الشيخ وحزبه: أحمد شاكر وعبد الرحمن الوكيل على طرة عدد غير قليل من كتب هذه المكتبة.
ثم در الله وقضى أن يلتحق عمك بمدارس بلاد الجزيرةمدرسا، فكان هذا السفر إيذانا بانفراجة مادية أعانت عمك على تكوين هذه المكتبة التي تراها أمامك، وأنا وإن كنت قد توقفت عن شراء الكتب منذ عقد من الزمن على الأقل إلا أني أعد تكوين هذه المكتبة من أجل الأعمال التي سأتذكرها على فراش الموت وأقول: نعم هذا حسن.
كان الفتى في كل ذلك يستمع إلى حديث عمه مذهولا مأخوذا، لقد غرس عمه في نفسه بهذه الكلمات القلائل معاني أكبر من أن يستوعبها، ولكنه يشعر أن نظرته إلى الكتب بعد هذه الكلمات قد تحورت وتطورت وأضحت نظرة ناضجة أنضجتها خمسة وستون عاما هي عمر زوج خالته.
لقد قضى الفتى في هذه المكتبة ثلاثة أيام يطالع ويقلب ويفتش موجها جل جهوده إلى ذلك الكنز الذي نبهه إليه الشيخ، ولعل الفتى لا يذكر الآن كثيرا من تفاصيل هذه الليالي الثلاث إلا أن الذي يذكره جيدا أنه عاد إلى أهل بيته وزملاء مدرسته وأتراب حيه بوجه غير الذي ذهب به وكان هذا إيذانا بمولد فجر جديد.
ـ[أبو فهر السلفي]ــــــــ[13 - 03 - 06, 06:56 م]ـ
فإذا القلان=العقلان
در الله=قدر الله
ـ[أبو الحسين المازيغي]ــــــــ[13 - 03 - 06, 07:38 م]ـ
بارك الله فيك أخي أبو فهر، فكتاباتك مشرقة تنبعث من بين سطورها روائح الصدق والجمال.
وفقك الله وثبتك.
ـ[أبو فهر السلفي]ــــــــ[14 - 03 - 06, 12:05 ص]ـ
جزاك الله خير الجزاء على حسن الثناء وجمعنا الله في جنته إخوانا على سرر متقابلين.
ـ[أبو فهر السلفي]ــــــــ[18 - 03 - 06, 09:34 م]ـ
الحلقة السادسة
رمق الفتى بنظرة والهة تلك النواة التي استطاع تكوينها والتي يأمل أن تكون يوما ما:مكتبة.
يعلم الله كيف اقتطع (300) جنيه جليلة عظيمة لينطلق بها إلى مكتبة ( .... ) ويدفعها كمقدم لصاحب المكتبة على أن يسدد له باقي المبلغ على فترات.
وانطلق ببصره كالمحموم يتفرس في أرفف المكتبة ليختار منها ما يناسبه،ولكم كان الفتى موفقا في اختياره فقد اختار فعلا مايصلح أن يكون نواة مكتبة.
فضابط نواة المكتبة: أن تكون مبنية على عدة محاور:
المحور الأول: الكتب التي سيدرسها الطالب في مرحلته الأولى في الطلب، ولنكر راجعين لنتأمل ما الذي اشتراه الفتى يومها مما يتسق وهذا المحور:
1 - شرح ثلاثة الأصول للشيخ محمد بن صالح العثيمين.
2 - شرح الواسطية. له أيضا.
3 - العدة في شرح العمدة للمقدسي. ولم يكن تحقيق التركي الذي نشرته مؤسسة الرسالة قد صدر يومها.
4 - الوجيز في أصول الفقه لعبد الكريم زيدان.
5 - التحفة السنية.
6 - تيسير مصطلح الحديث للطحان.
7 - الرحيق المختوم للمباركفوري.
8 - أيسر التفاسير للجزائري.
9 - رياض الصالحين.
المحور الثاني: مرجع من مراجع كل فن بحيث يستطيع الطالب مطالعة بعض المسائل فيه بتوسع إن احتاج ذلك، فلنكر راجعين لنتأمل ما الذي اشتراه الفتى يومها مما يتسق وهذا المحور:
1 - تفسير ابن كثير. ولم تكن طبعة أولاد الشيخ قد صدرت يومها.
2 - معارج القبول، ولم تكن طبعة ابن الجوزي قد صدرت يومها.
3 - شرح صحيح مسلم للنووي.
4 - المغني لابن قدامة، ولم يكن الفتى يومها قد رأى طبعة الحلو والتركي والتي توزعها مصورة دار عالم الكتب.
5 - فتاوى اللجنة الدائمة، ولم تكن قد صدرت كاملة يومها.
المحور الثالث: لابد أن تحتوي المكتبة الأولى على عدد لابأس به من الكتب العامة غير الثقيلة أو شديدة التخصص؛ وذلك لمطالعتها وتقريب الكتب وحبها والقراءة وعشقها لنفس الطالب،ومما اشتراه الفتى يومها:
1 - سير أعلام النبلاء طبعة مؤسسة الرسالة.
2 - البداية والنهاية، ولم تكن طبعة هجر أو حتى دار ابن رجب قد صدرت يومها.
3 - الشعر والشعراء لابن قتيبة طبعة دار الحديث.
4 - الأنابيش لعبد الرحمن الضبع.
وهكذا كون الفتى النواة الأولى لمكتبته التي ستصبح كبيرة فيما بعد.
¥