الثاني: تجدر الإشارةُ هنا إلى أنَّ بعضَ العلماء ظنَّ "الخلاصةَ" اختصاراً لـ "الوجيز" للغزالي أيضاً، وهذا خطأ؛ فإن الغزالي مصرِّحٌ في ديباجة "الخلاصة" بأنها اختصارٌ وترتيبٌ لـ "مختصر المزني"، وصرَّح به أيضاً في "الإحياء". فلا أصلَ إذن لما ظنه هؤلاء، لكن ألتمسُ العذرَ لهم فيما قالوه؛ لأن مَن يطالعُ في "الوجيز" و"الخلاصة" ولا يَدْري ما هو أصلُ "الخلاصة" فأولُ ما يتبادرُ إلى الذهنِ أنها اختصارُ "الوجيز"؛ لأن الغزالي قد سلك - في الجملة - في تأليف هذا المختصر مسلكَ "الوجيز" من حيث الترتيبُ والتقسيمُ كما يظهرُ لمن يطَّلع على الكتابين أدنى اطلاع، هذا شيءٌ.
وشيءٌ آخر: أن كتبَ الغزالي الفقهية بعضها مختصر من بعض، فألَّف رحمه الله "البسيط" أولاً، وهو اختصارٌ لـ "نهاية المطلب في دراية المذهب" لشيخه إمام الحرمين أبي المعالي الجويني، ثم اختصر "البسيط" في كتاب سماه "الوسيط"، ثم ألف "الوجيز" وهو مختصرٌ أخذه من "البسيط" و"الوسيط" وزاد فيه أموراً، و"الوجيزُ" هو المتنُ الذي شرحه الإمامُ الرافعي بشرحين صغيرٍ وكبيرٍ وسماه "العزيز"، فقد يظنُّ البعضُ أن الغزالي قد جرى على عادته في اختصار كُتبه فاختصر "الوجيز" في "الخلاصة"، وليس الأمرُ كذلك.
الثالث: ما أثبتُّه على الغلاف من اسم الكتاب وهو "خلاصة المختصر ونقاوة المعتصر" هو ما سمى الإمامُ الغزالي به كتابَهُ كما صرَّح به في ديباجة "الخلاصة"، وذَكَرَه بهذا الاسم أيضاً العلامةُ مرتضى الزبيدي، ويشتهرُ الكتابُ أيضاً باسم "الخلاصة" اختصاراً من غير إضافة إلى شيء كما يقعُ النقلُ عنه كذلك في كتب المذهب كـ"المجموع" و"الروضة" وغيرهما. ويُقال له أيضاً: "خلاصةُ المختصر" كما وقع في كلام الغزالي في "الإحياء". وللكتاب اسمٌ آخرُ ذَكَرَهُ العلامةُ الزبيدي وهو:" خلاصةُ الوسائل إلى علم المسائل ".
الرابع: نبَّه السيدُ الزَّبيدي على أن "الخلاصة" ليس هو "عنقود المختصر ونقاوة المعتصر" للغزالي أيضاً، وإنما هذا كتابٌ آخر، وقد ذَكَرَ في موضع آخر أنه - أعني العنقود - مختصرٌ لـ "مختصر الجويني" على "مختصر المزني".
والذي يغلبُ على ظني أن "عنقود المختصر" هو نفسُه "خلاصة المختصر" وليس هو اختصارَ "مختصر الجويني"، أو يكون كتاباً آخرَ لكن ليس اختصاراً لـ"مختصر الجويني"، فمن البعيد جداً كما لا يخفى أن يكون الغزالي قد عمل اختصاراً على "مختصر" الشيخ أبي محمد، وفي الوقت نفسه يعمل على اختصار "مختصر المزني"؛ لأنه لا يخفى على من علم أصلَ "مختصر الشيخ أبي محمد" أن مادةَ الكتابين أعني "مختصر المزني" و"مختصر الجويني" واحدة، فلا فائدةَ مطلقاً لتكرار الاختصار.
وعندي أن ما ذكره الزبيدي رحمه الله وهم، ومنشؤه - والله أعلم - أن الغزالي قد تعرَّض في ديباجة "الخلاصة" لـ "مختصر الشيخ أبي محمد" فمدحه تارة وانتقده أخرى كما علمتَ، فقد يظنُّ القارئُ لكلام الغزالي أنه عازمٌ على إصلاح عمل الجويني فيما لم يوافقه فيه، وليس الأمرُ كذلك، بل الغزالي مصرِّحٌ في الديباجة بأن "الخلاصة" اختصارٌ لنفس "مختصر المزني" لا لـ"مختصر الجويني " عليه.
الخامس: قال شيخُ الإسلام في "شرح منهج الطلاب" في باب الأحداث عند الكلام على حرمة مس المحدث للقرآن ما نصه:" (و) مسّ (جلده) المتصل به؛ لأنه كالجزء منه، فإن انفصل عنه فقضيةُ كلام "البيان" الحل، وبه صرَّح الإسْنوي، لكن نقل الزَّرْكشي عن "عُصارة المختصر" للغزالي أنه يحرم أيضاً، وقال ابنُ العماد: إنه الأصح ". اهـ
قال الجملُ في حاشيته عليه:" قوله (عن "عصارة المختصر") هو متنُ "الوجيز" للغزالي ولعلَّ تسميته بـ "العُصارة" لكونه عَصَرَ زبدَ "المختصر" أي "مختصر المزني"؛ أي: أخرجها منه. اهـ وعبارةُ البِرْماوي: قوله (عن "عُصارة المختصر") بضم العين المهملة؛ أي: خُلاصته، والمرادُ به "مختصر المزني". انتهت ". اهـ
فترى أن العلامةَ سليمان الجمل قد جعل "الوجيز" هو مختصرَ "مختصر المزني" وهو خطأ ظاهر؛ إذ "الوجيز" اختصارٌ من "البسيط" و"الوسيط" للغزالي نفسه كما تقدم، و"الخلاصة" هو مختصرُ "مختصر المزني".
وعلى هذا يكون الكتابُ الذي نَقَلَ عنه الزركشيُّ وسماه "عُصارةَ المختصر" هو نفسَه "الخلاصة"، ومما لا يُبعد ذلك أن الحكمَ الذي نسبه الزَّرْكشي إلى الغزالي في "عُصارة المختصر" موافقٌ لما في "الخلاصة" التي بين أيدينا الآن، وعبارةُ "الخلاصة" في باب الأحداث:" والثاني: تحريمُ حمل المصحف في غلاف وغير غلاف , ومسِّه , ويستوي فيه الجلدُ والحاشية والسطر ". اهـ فترى الغزالي قد أطلق حرمةَ حملِ ومسِّ جلد المصحف، وهو - أعني إطلاقه - يقتضي تحريمَ ذلك حالَ انفصال الجلد كحال اتصاله.
السادس: لم أقفْ إلى الآن على أيِّ عمل لعلمائنا على كتاب "الخلاصة" لا شرحاً ولا اختصاراً ولا غيرهما، بخلاف مختصره الآخر - أعني "الوجيز" - فقد تصدَّى لشرحه أئمةٌ عظامٌ كالرافعي، وعندي أن السِّرَّ في هذا - والله أعلم – أن "الوجيز" أوسعُ في مادته العلميةِ من "الخلاصة" سواءٌ في ذكر المسائل والفروع وبيان الأقوال والخلاف والأدلة والتعليلات؛ لذا حَسُنَ صرفُ همم التأليف نحوَه دون "الخلاصة".
والعفو
¥