لم تفلح الطلبات والتوسلات في الإفصاح عن الشيخ الحافظ , ولكن ما أن انتهى الوقت حتى تجمهر الطلاب حول الشيخ وكلهم شوق لمعرفة هذا المحدث المغمور.
وعند ئذٍ قال بصوت حاسم: يعني ما درسكم الشيخ محمد بن مطر الزهراني!!!.
وللأسف أن الشيخ محمد في تلك السنة التي كنا في أول سني الجامعة أصابه مرض خطير , فأعطي إجازة لمدة عام واحد.
المهم أنني كنت قد تعرفت على الشيخ السني المحدث الوقور محمد بن مطر وأنا في السنة الثانية بعد أن جاء من الرحلة العلاجية لعلاج السرطان.
بدأت أول ماجئت المدينة أتخير الشيوخ وأنتقيهم , هذا المحدث الشهير حماد الأنصاري رحمه الله ومكتبته المشرعة بكل حفاوة لطلبة الحديث , وذاك الشيخ عبد المحسن العباد وفقه الله ودروسه في سنن أبي داوود والنسائي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ,وهنا بين الحصوتين في المسجد النبوي يجلس في هيبة ووقار الشيخ عبدالله الغنيمان ليشرح فتح المجيد وسنن أبي داوود , وهذا هو الشيخ علي بن سعيد الغامدي يشرح منار السبيل في المسجد النبوي القديم , وتلك مجالس الشيخ المختار الشنقيطي في بيته لدراسة عمدة الفقه , كنت أتنقل بين دروسهم وغيرهم كثير في فرحة غامرة , كانت المدينة النبوية صلى الله على ساكنها , أشبه بجنة غناء وارفة الظلال (ولازالت على اليوم) , وكنت مع كل هذا أميل الى مُحدِّث يشفي غلة صدري.
سمعت من طالب نبيه في كلية الحديث ذات يوم أن الشيخ محمد مطر (ليس عنده جمود المحدثين ولا كودنة النقلة) , وهي عبارة عظيمة أطلقها الصفدي في حق شيخه الإمام الذهبي رحمهما الله.
فقلت في نفسي هي والله تصدق على الشيخ من كل وجهٍ فقد قال الصفدي في الوافي بالوفيات (1/ 217): " ولم اجد عنده جمود المحدثين ولا كودنة النقلة , بل هو فقيه النظر له دربة بأقوال الناس ومذاهب الأيمة من السلف وأرباب المقالات .. ".أهـ
بدأت أتعرف على الشيخ محمد بن مطر , قد رأيت حفاوة الكثير وهم يحمدون الله أن أنجاه من المرض الخبيث الذي أفقده كثيراً من صحته وعافيته إذ ذاك. أصابة الشيخ كانت تعني لطلابة فاجعة حقيقية.
فهو مُعلم من الطراز النادر , ومربي يجمع بين الماضي والحاضر , يجتمع فيه التوجيه وبعد النظر , ودقة الملاحظة , وغيرة على العقيدة نادرة , وكرهٍ شديد للتحزب المقيت , مع رحمة بالخلق , وسعة صدر , وأدب مع المخالف. عايشته سنين فما كان يجرح المخالف , بل كان يبين وجهة نظرة ثم يفندها بأقوال السلف وأفعالهم , مع الدليل من الكتاب والسنة. سنين عشتها معه لم يكن صوته يخرج عن جلسائه فهو يتكلم ليسمعك لا ليرهبك أو يأخذك بقوة الصوت.
- يا إخوة أين منهج السلف في العبادة والورع وعدم الخوض فيما لاينفع.؟ هكذا تخرج منه دائماً عبارات تأسرك وتجذبك اليه.
ـ كيف يكون الشخص منتسباً لمنهج السلف وأهل الحديث وهو آخر من يدخل المسجد , أين قوام الليل وصوام النهار وفرسان المعارك , الم يكن لنا اسوة في النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عباد , مجاهدين متراحمين , معلمين , فقهاء.
ـأين شبابنا عن مثل ابن المبارك , مع المجاهدين في الصف الأول ويرفض أن يتنقصهم أو يذمهم , مع العلماء سيد العلماء , مع العباد شيخ العباد , مع أهل الحديث أرحم الناس بهم , .......... ..... ثم والله يصارع دموعه أن تنطق فيخفي وجهه ويختصر كلامه.
أما سفيان الثوري فقد كان له مع الشيخ محمد مطر شأن آخر و فهو يكاد أن ينزع قلبك من جسدك حين يتكلم عليه وعن مآثره الحميدة.
ولذلك صنع من سفيان الثوري ملحمة , وصنف مجلداً في أخباره وأحواله , وما يمكن أن يطبقه طالب السنة اليوم في عصره , من خلال حياة السلف.
جاء إلى المدينة ذات يوم الداعية الموفق الشيخ ناصر العمر ودعيت للحضور في بَرِّية جميلة حضرها ثلة من الأخيار , قال الشيخ ناصر في بداية اللقاء: كان من المفترض أن يأتي الشيخ ابو ياسر (وهي كنيته) ثم قال يإخوان هذا الرجل عجيب أغلب المشايخ يذهبون الى أفريقيا ويبقون أسبوعين او نحوها على نفقة الجامعة وفي العواصم الرئيسية , وقد اخبرني بعض المشايخ ان الشيخ محمد مطر يبقى ثلاثة أشهر او شهرين وعلى حسابة الخاص ويختار المناطق النائية.
¥