فإن كان طالب العلم هذا ممن أوتي موهبة الحفظ، فليجمع عزمه على ما يستطيعه من هذه الكتب. ويمكنه أن يبدأ بحفظ (الأربعين النووية) وما ألحقه ابن رجب بها لتمام خمسين حديثاً، ثم ينتقل إلى (عمدة الأحكام) لعبدالغني بن عبدالواحد المقدسي، ثم إلى (بلوغ المرام) لابن حجر، أو (اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان) لمحمد فؤاد عبدالباقي، ثم إلى الصحيحين؛ ثم ما شاء مما يوفقه الله تعالى إليه من الكتب. وأنصحه أن ألا يضيف إلى محفوظه إلا ما حكم عليه بالصحة والقبول من إمام معتبر، إلا بعد أن يستوعب ذلك.
ويمكن طالب الحديث أن يكمل قراءته لكتب السنة بقراءة شروح مختصرة لكتب الحديث، مثل (أعلام الحديث) في شرح صحيح البخاري للخطابي، وشرح النووي لصحيح مسلم، وشرح الطيبي لمشكاة المصابيح، وفيض القدير للمناوي. وأسهل من ذلك كله، أن يضع الطالب بجواره أثناء قراءته لكتب السنة كتاب (النهاية في غريب الحديث والأثر) لابن الأثير، لأنه كتاب يعنى بتفسير الكلمات الغريبة لغوياً الواردة في الأحاديث والآثار؛ ليستطيع من خلال ذلك أن يفهم المعنى العام للحديث، وأن لا يروي ما لا يدري. فإن أراد التوسع: فعليه بمثل (التمهيد) لابن عبدالبر، و (طرح التثريب) للعراقي، و (فتح الباري) لابن حجر.
أما بالنسبة لكتب علوم الحديث والمصطلح: فإن كان الطالب صغير السن (في مثل المرحلة الدراسية المتوسطة) فيبدأ بالبيقونية أو (نخبة الفكر) لابن حجر، مع شرح ميسر لها؛ وإن كان في المرحلة الثانوية أو بداية الجامعة فيبدأ بـ (نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر) لابن حجر، أو (الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث لابن كثير) لأحمد محمد شاكر، أو (الغاية شرح الهداية) للسخاوي. ثم ينتقل إلى كتاب ابن الصلاح في علوم الحديث، ويضم إليه شروحه كـ (التقييد والإيضاح) للعراقي و (النكت على كتاب ابن الصلاح) لابن حجر، ويتلو ذلك كتاب (الموقظة) للذهبي. ثم ينتقل إلى الكتب الموسعة في علوم الحديث، مثل (تدريب الراوي) للسيوطي، و (فتح المغيث) للسخاوي، و (توضيح الأفكار) للصنعاني. ثم يدرس بعمق كتاب (الكفاية) للخطيب، و (معرفة علوم الحديث) للحاكم، و (شرح علل الترمذى) لابن رجب، ومقدمة (التمهيد) لابن عبدالبر، ومقدمة (الإرشاد) للخليلي. ثم ينتهي بالتفقه في كلام الشافعي في (الرسالة)، ومسلم في مقدمة (الصحيح)، وأبي داود في (رسالته إلى أهل مكة)، ونحوها.
وبعد تعلمه لـ (نزهة النظر) أو ما ذكرناه في درجتها، وأثناء قراءته لكتاب ابن صلاح، عليه أن يكثر مطالعة كتب التخريج، مثل (نصب الراية) للزيلعي، و (البدر المنير) لابن الملقن، و (التلخيص الحبير) لابن حجر، و (تنقيح التحقيق) لابن عبد الهادي، والسلسلتين و (إرواء الغليل) للألباني. ويحاول خلال هذه القراءة أن يوازن بين ما عرفه من كتب المصطلح وما يقرؤه في كتب التخريج تلك، ليرى نظرياً طريقة التطبيق العملي لتلك القواعد ومعاني المصطلحات.
وإذا ما توسع في قراءة كتب التخريج السابقة، ويدرس كتاباً من الكتب الحديثة في أصول التخريج، مثل (أصول التخريج ودراسة الأسانيد) للدكتور محمود الطحان. ثم يدرس كتاباً أو أكثر في علم الجرح والتعديل، مثل (الرفع والتكميل) للكنوي، وأحسن منه (شفاء العليل) لأبي الحسن المصري. ويدرس أيضاً كتاباً من الكتب التي تعرف بمصادر السنة، كـ (الرسالة المستطرفة) للكتاني، و (بحوث في تاريخ السنة النبوية) للدكتور أكرم ضياء العمري.
ثم يبدأ بالتخريج ودراسة الأسانيد بنفسه، وكلما بكر في ذلك (ولو من أوائل طلبه) كان ذلك أعظم فائدة وأكبر عائدة؛ لأن ذلك يجعله يطبق القواعد فلا ينساها، ويتعرف على مصادر السنة ومناهجها، ويتمرن في ساحات هذا العلم. والغرض من هذا التخريج – كما سبق – هو الممارسة للتعلم، لا للتأليف؛ وقد تقدم الحديث عن أهمية هذه الممارسة في علم الحديث.
وأثناء قيامه بالتخريج، عليه أيضاً أن يخص علم الجرح والتعديل التطبيقي بمزيد عناية كذلك؛ وذلك بقراءة كتبه الكبار، مثل: (تهذيب التهذيب) لابن حجر، و (ميزان الاعتدال) للذهبي؛ وكتبه الأصول، مثل: (الجرح والتعديل) لابن أبي حاتم، و (الضعفاء) للعقيلي، و (المجروحين) لابن حبان، و (الكامل) لابن عدي، وكتبه التي هي أصول الأصول، مثل: تواريخ يحيى بن معين وسؤالاته هو والإمام أحمد، (التاريخ الكبير) للبخاري، ونحوها. وهو خلال قراءته هذه يحاول أن يوازن بين استخدام الأئمة لألفاظ الجرح والتعديل وما ذكر عن مراتب هذه الألفاظ في كتب المصطلح. وإن مر به أحد الرواة الذين كثر الاختلاف فيهم، فعليه أن يطيل في دراسته، فإن هؤلاء الرواة مادة خصبة للدراسة والاستفادة.
وما يزال الطالب في الترقي العلمي في قراءة كتب علوم الحديث، فلا يدع منها شاردة ولا واردة، وفي التوسع في التخريج، وفي تمحيص علم الجرح والتعديل؛ حتى يصل إلى منزلة يصبح قادراً فيها على دراسة كتب العلل، مثل: (العلل) لابن المديني، والترمذي، وابن أبي حاتم، وأجلها (علل الأحاديث) للدارقطني. فيقرأ الطالب هذه الكتب قراءة تدقيق شديد، وتفقه عميق؛ ليدري بعضاً من أساليب الأئمة في عرض علل الأحاديث، وطرائق اكتشاف تلك العلل، وقواعد الحكم على الأحاديث.
فإذا وصل طالب الحديث إلى هذه المرحلة، فلابد أن رأسه قد أمتلأ بالمشاريع العلمية والبحوث الحديثية، التي تزيده تعمقاً في علم الحديث. فليبدأ (على بركة الله) مشوار العلم الطويل، منتفعاً ونافعاً مستفيداً مفيداً.
فإن بلغ طالب الحديث هذه الرتبة، وأسبغ الله عليه نعم توفيقه وتسديده، ومد عليه عمره في عافية، وطالت ممارسته لهذا العلم؛ فيا بشرى العالم الإسلامي، فقد ولد له محدث!!
وأنبه – أخيراً – أن هذه المنهج التعليمي إنما نطرحه للطالب الذي لم يجد من يوجهه. أما من وجد عالماً ربانيا يعتني به توجيهاً وتعليماً، فعليه أن يقبل عليه بكليته، وأن يلزم عتبة داره؛ فهو على خير عظيم، وعلى معارج العلم يترقى، ما دام جاثياً في حلقة ذلك العالم.
والله أعلم.
¥